والحيوانات التي لا تشاركنا نحن معشر البشر في 'نواعرنا' و'قوالبنا' المقولبة لا تعرف الضحك ولا ماهيته، وليست بحاجة مطلقا إلى كل هذه المسكنات المؤقتة التي يستعملها بنو البشر كي ينسوا هادم اللذات، وتبعا لذلك فالحيوانات على النقيض منا نحن البشر لا تعرف اليأس ولا يصيبها الإحباط مطلقا، وتجدها تقاوم ظلم البشر، وقساوته ودمويته، وتتشبت بالخيط الدقيق للحياة حتى وهي على حافة الردى والهلاك، وكأن بها تطبق بالفطرة مقولة عالم الفيزياء الأمريكي 'ريموند سيمولين': "لماذ علي أن أقلق بشأن الموت، هذا لن يحدث غالبا خلال حياتي".
منذ 200 ألف سنة حتى يومنا هذا بلغ عدد البشر الذين بصموا بصمتهم الكربونية على هذا الكوكب الطيني المعلق في الفضاء بدون نقطة ارتكاز حوالي 107 مليار نسمة، ونحن حاليا نبلغ 7.8 مليار نسمة أي ما يناهز 6 % لا أقل ولا أكثر من مجموع الذين سافروا السفرة الأخيرة نحو الأبدية، من بعدما غيبهم الموت وأفنى منهم 100 مليار من البشر...100 مليار من الرغبات والأماني والشهوات... 100 مليار من الضحكات والقهقهات...100 مليار من الألسن التي لم تكف عن الكلام والجدال والخصام وأكل لحوم بعضها البعض... 100 مليار من الأسنان التي لم تكف عن افتراس عَالَـمَيْ الحيوان والنبات اللذين باتا يعانيان من انقراض الكثير من أنواعهما.
فسواء ضحكنا سخرية وانتقاصا ممن نظن بهتانا أننا أغنى منهم، أو أعلى منهم شأنا ومرتبة، أو أذكى منهم، أو نتيجة تناقضاتنا الصارخة التي تفصح عنها سرائرنا عندما ننسى ونصرح بما تخفيه بواطننا، أو نتيجة جهلنا وأخطائنا الكارثية والمتعددة تجاه المخلوقات الأخرى، وبدرجة أقل حدة تجاه بعضنا البعض، أو ضحكنا للتخفيف من توجساتنا وتخوفاتنا من الأخطار المحذقة بنا لإيجاد نوع من التوازن النفسي حتى لا تنفجر ذواتنا من دواخلنا، يبقى الضحك في كل الأحوال الملاذ الأخير، والمتنفس الوحيد الذي يجعل الحياة أكثر احتمالا وأقل سوداوية، عندما تضيق بنا الدنيا وتكفهر العواصف الهوجاء من حولنا.
فالضحك هو الترياق لكل من يعاني الاكتئاب والملل، لأنه يبدد الهموم والأحزان والأفكار المرضية السوداوية، وغالبا ما يكون ضامنا للصحة العقلية الجيدة، والناس الذين يضحكون بكثرة يبدون سعداء أكثر من غيرهم، لأنهم ليس لديهم تاريخ كما قالت الروائية الكندية 'إيف بليسل'.
فمن صادف لحظة للضحك فعليه أن ينتهزها ولا يفوتها، لأنه لا يمكنه استيعادتها بشرائها ولو بكل ما في الأرض من أموال، إذ لا شيء يبدو لي جادا ومعقولا في عالمنا الأرضي الخارج عن نطاق المعقول أكثر من الضحك حتى البكاء، ولعمري تلكم هي الهدية الغالية والبلسم الشافي لكل الأدواء التي يمكن أن يقدمها البشر لبعضهم البعض، كي يعصروا دموع الفرح والانشراح الباردة من عيون احمرت والتهبت بكثرة الدموع الحارة لطول سنوات البكاء.