لا وجود للحياد فإما أن تكون بجانب هذا الطرف أو ذاك

 "إِنْ كُنْتَ لاَ تَدْرِي مَعَ أَيِّ طَرَفٍ أَنْتَ، فَإِنَّكَ بِدُونِ شَكٍّ تُوجَدُ بِِجَانِبِ الزُّبْدَةِ" أستاذ علم الاجتماع بول باسكون  Paul Pascon
لا وجود للحياد فإما أن تكون بجانب هذا الطرف أو ذاك
يعتبر الباحث الراحل بول باسكون  Paul Pascon الذي ولد بمدينة فاس سنة 1932 من أجود وأرفع الأطر المغربية التي جادت بها مدرسة علم الاجتماع المغربي، رجل جد متواضع مع كل الناس خاصة الفلاحين الصغار والطبقات المسحوقة، جد دقيق ومنهجي لدرجة تثير الدهشة والإعجاب، درس ووصف وانتقد انقسامات المجتمع المغربي ساعيا إلى تغييره في العمق لتخليصه من أرجاس الماضي،  إنه المثقف الملتزم الذي وضع البحوث في خدمة المعرفة من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي نحو الأفضل، بول باسكون  الذي أحب المغرب واختاره وطنا له وقضى عمره كله بين أحضانه، متنقلا بين سهوله وجباله وأحراشه وصحاريه ووديانه، مشاركا الناس العاديين في حياتهم القروية، متحدثا لهجاتهم على اختلافها وتنوعها، ومشاركا لهم حتى في قوتهم المتواضع بدون عجرفة ولا ترفع ولا أبهة فارغة، إلى حين وفاته في ليلة من ليالي أبريل سنة 1985 في حادثة سير غامضة ومُروعة بصحراء موريتانيا رفقة زميله الباحث المغربي محمد عريف.
نشر الراحل بول باسكون أول دراسة له سنة 1954 وكانت حول "هجرة شلوح سوس أيت واديم إلى منطقة جرادة"، بعد ذلك كُلِّفَ بالتنسيق بين الدراسات التحضيرية لأول تصميم خماسي مغربي بمصلحة التخطيط سنة 1956، إبان هذه الفترة قام بتأسيس الفريق المتداخل الاختصاصات للبحث في العلوم الإنسانية، ثم التحق بعد ذلك بالمكتب الوطني للري سنة 1961، بعدها بثلاث سنوات حصل على الجنسية المغربية وتم تعيينه مديرا للمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي للحوز بمراكش، عمل كأستاذ محاضر بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة إلى حين وفاته.
 للراحل بول باسكون عدة كتابات ومؤلفات أذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر "المسألة الزراعية بالمغرب" في جزأين، "حوز مراكش" في مجلدين وهو مرجع مهم وغني لكل طالب أو باحث أو مهتم بالعلوم الاجتماعية والأشغال القروية، "التاريخ الاجتماعي والهياكل الزراعية" في مجلدين، "دراسات قروية-أفكار وتحقيقات حول القرية المغربية"، " بنو بوفراح-دراسات في الإيكولوجيا الاجتماعية لسهل ريفي"، "دار إيليغ والتاريخ الاجتماعي لتازروالت"، " المسألة المائية بالمغرب" وغيرها.
في إحدى محاضراته التي ألقيت بتاريخ 23 مارس 1973 بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بمدينة الرباط تحت عنوان "التقني ما بين الانطماس والترميق"، سلط الرجل الضوء على موضوع بالغ الأهمية بمكان، نظرا للدور الخطير والحاسم الذي يلعبه التقني في المجتمع، ووضح بجلاء ما وراء الأكمة عندما قال بأن التقنية ليست محايدة ولا بريئة أقل من العلم، وليس هناك شيء عالمي ولا مصلحة عامة كما يحكي في أحاجيهم وخرافاتهم الطويلة والمنمقة السياسيون، إذ نكون دائما وأبدا منحازين لطرف دون الآخر، وعندما لا ندرك هذه البديهية ومع أي جانب نحن، فلأننا بدون شك نوجد بجانب الزُّبْدَةِ.
إن منطق التقنية المحض سواء كانت هيدروليكية أو فلاحية أو اقتصادية لا يسمح في أحسن الأحوال إلا باستبعاد الإنسان الحي والمجتمع الحقيقي عن ميدان التفكير والاستدلال والمشاركة، إن الأمر المنطقي ليس شيئا مطلقا مكتوبا في السماء، بل هناك أوجه عدة للأمور المنطقية التي هي في الأساس غريمة فيما بينها ومتنافسة ومتعاقدة ومؤقتا متحالفة، وغض الطرف عن هذه الحقيقة الساطعة يُتيح للتقني التفرغ لمتعة معادلاته الرياضية الكاملة، ولكن هذا   يرجع دائما في الأساس إلى تبني موقف الطبقة السياسية المهيمنة، والقِوَى المتنفذة في مراكز القرار، عند ذلك تُصبح وجهة النظر التقنية المحضة هي دائما نسخة طبق الأصل لوجهة نظر الطبقة السياسية المسيطرة، التي على الرغم من تموقعها على الهامش من عملية الإنتاج الملموس، فإنها تعيش من اقتطاعات فائض هذا الأخير.
إن كل طبقة اجتماعية تسعى وراء أهدافها المسطرة وتستخدم لهذا الغرض -من أجل احتلال محل الآخر ومن أجل مقاومته- التقنية كأداة أو السياسة أو الحرب، إن الأمر لا يعدو أن يكون هنا سوى معرفة من سيتمكن في آخر المطاف من تحويل المكسب والمنفعة لصالحه.
إن التقنية هي خادم ولم تكن في يوم من الأيام غير ذلك، ولكنها غالبا ما كانت تُـحْجِم عن تقبل الأمر بروح رياضية، وإذا كان لا يمكنها أن تختار خدمة الأقوياء كعادتها، فعلى الأقل أن لا تعدل وأن لا تستغني عن الشفافية والوضوح، وعن الاختلافات، وأن تكف  عن إخفاء الانطماس.
وإذا كانت للتقنية الجرأة في اختيار خدمة المستضعفين في الأرض، فيجب عليها أن تُبدي على درجة عالية من الخيال والابتكار والمجهود الكبير، حتى تُبَرهِن على أن أعمالها المرمقة -مُحَاوِلَةً تجنب الانطماس- تقترب بعض الشيء من العالمية دون الوصول إليها رغم ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق