الوصايا السبع في دستور الحيوانات لجورج أورويل

"تَزْدَهِرُ الدِّيكْتَاتُورِيَّةُ عَلَى أَرْضِ الْجَهْلِ" الروائي البريطاني جورج أورويل
الوصايا السبع في دستور الحيوانات لجورج أورويل
مزرعة الحيوانات هي حكاية ذات طابع سياسي نُشِرَتْ عام 1945، ومنذ ذلك الحين ارتقت إلى مستوى روائع الأدب الكلاسيكي العالمي، وعلى غرار عبد الله بن المقفع في كليلة ودمنة وجان دي لافونتين في حكاياته الطريفة التي لا تخلو من دروس وعبر، استطاع الصحفي والروائي البريطاني جورج أورويل وهو الإسم الْمُسْتَعارُ لإسمه الحقيقي إريك آرثر بلير (1903-1950) أن يُنْطِقَ الحيوانات ليمرر عبرها انتقادا لاذعا لنظام الاتحاد السوفياتي السابق، خاصة إبان فترة الحكم الستالينية، مُنددا بانحرافات السلطة واستبدادها، ومُديناً السياسة المنافقة لهذا النظام، الذي انفرد بالسلطة تحت ذريعة اقتسام الثروة وبروباغندا المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات كمبدإ عام في جميع أوجه الحياة. 
غير أن النظام لم يعمل إلا على الاستحواذ على السلطة والتلاعب بعقول أكبر عدد من الناس، مما يفضح فضحا صارخا الفرق بين الأقوال والأفعال عند السياسيين، ويعري الوجه القبيح للعبة المال والسلطة عندهم، وعلى أية حال فإن مغزى حكاية حديقة الحيوانات يبقى صالحا لكل زمان ومكان، ولجميع أنظمة الحكم السياسية الاستبدادية القمعية التي يرتع فيها الفساد، وينعدم فيها العدل والعدالة، ويتفشى في أحشائها الظلم الاجتماعي بكل أشكاله وتجلياته بتفاوتاته الطبقية الصارخة.
حاول 'جورج أورويل' أن يُشَرِّحَ تشريحا دقيقا لآليات الأنظمة القمعية التحكمية الشمولية، مُدِيناً في نفس الوقت صعود أقلية واستيلائها على السلطة والثروة ومقاليد الحكم، ووضعها أدوات دعائية واستخباراتية جهنمية تخدم مصالح هذا النظام الاستبدادي من خلال استغلال سذاجة المستضعفين وتدمير ذكاء المنافسين ومحوهم من الوجود.
وملخص الحكاية يكمن في قيام الحيوانات بثورة عارمة على مالك مزرعة 'مانور' 'المستر جون' وطرده منها خارجا، بعد نفاذ صبرها على معاملاته القاسية والمهينة والحاطة بالكرامة الحيوانية، حتى يتسنى لها إدارة شؤون حياتها بنفسها دون تدخل أي بشري كيفما كان.
إن هذا الكتيب الصغير الذي يبدو للوهلة الأولى عبارة عن حكاية صغيرة للأطفال، يضم بين دفتيه واحدة من أروع الحكايات السياسية التي لم تكتب في أي وقت مضى، وترقى إلى روائع الأدب العالمي الخالدة، وقد تمت  ترجمتها إلى أكثر من سبعين لغة، وهي حكاية جمعت بين السخرية والفكاهة والأناقة وبساطة الأسلوب، مما سمح للكاتب المبدع 'جورج أورويل' بمعالجة قضايا سياسية وتاريخية ببراعة فائقة ونظرة ثاقبة، تجعل أي قارئ مغرم بالأدب الرفيع مشدودا ومندمجا مع أحداث  الحكاية وأشخاصها منذ أول كلمة حتى آخرها دون أن يدرك أنه وصل فعلا إلى النهاية:
خطب الخنزير الحكيم المحترم أمام جميع حيوانات مزرعة 'مانور' لصاحبها السابق 'مستر جونس' وقال: ما هي طبيعةُ وجودنا أيها الرفاقُ؟ دعونا نواجه الأمور وجهاً لوجهٍ، لدينا حياةٌ  جِدُّ قَصِيرَةٍ كُلُّهَا تَعَبٌ وَبُؤْسٌ، فمنذ أن نفتح أعيننا على هذا العالم لا يُعْطَى لنا سوى ما يُبْقِينَا بِالْكَادِ على قيدِ الحياةِ، ومن هم بيننا أكثرُ قُوَّةً يضطرون للعملِ بدونِ تَوقُّفٍ حتى يُسْلِمُونَ الرُّوحَ لِبَارئِها، وفي اللحظة التي لا تعود لنا أية إفادة بالنسبة للبشر يتم ذبحنا بِقَساوةٍ لا توصفُ، بعد السنة الأولى على الأرض ليس هناك حيوانٌ واحدٌ يعرف معنى الاستجمامِ أو السعادةِ، وعندما يقهره البؤسُ أو العبوديةُ ليس هناك حيوانٌ واحدٌ حرٌّ، هذه هي الحقيقةُ، فهل هذا قَدَرٌ مـَحْثُومٌ حُدِّدَ بـِمَرْسُومٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ؟ وهل بَلَدُنَا فقيرٌ جِدّاً لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أن يُوَفِّرَ لِسَاكِنَتِهِ حَيَاةً كَرِيـمَةً وَلاَئِقَةً؟
إن الإنسانَ هو المخلوقُ الوحيدُ الذي يستهلكُ دون أن يُنْتِجَ شيئاً، إنه لا يُعطي لبناً، ولا يَضعُ بيضاً، وهو ضعيفٌ جدّاً لِجَرِّ عَربةٍ، وبطيئٌ جدّاً لصيدِ أرنبٍ، وعلى الرغم من ذلك فهو الذي يُسَيِّرُ جميع الحيوانات، ويُوَزِّعُ بينها الْمَهَامَّ، ولا يُطعِمُها إلا بما يُبْقٍيهَا بالكَادِ على قَيْدِ الحياةِ، ويَسْتَحْوِذُ على الفائضِ لنفسهِ، من يحرثُ الأرضَ؟ نحنُ، من يـُخَصِّبُهَا؟ روثُنَا الذي يتحولُ إلى سمادٍ، ورغم ذلك لا أحدٌ منا يَمْلِكُ شيئاً من حُطامِ الدُّنيا  غيرَ الْجِلْدِ الذي يكسو لَحْمَهُ وَعَظْمَهُ.   
وقبلَ وفاتهِ بوقتٍ قصيرٍ، اسْتَوْدَعَ الخنزيرُ الحكيمُ حُلْمَهُ لرفاقهِ بتَحَقُّقِ مُستقبلٍ خالٍ من أي أثرٍ للبشرِ، حيث يمكن لأيِّ حيوانٍ أن يعيشَ حرّاً مُستقلاًّ ليجني ثِمارَ عَمَلِهِ وَكدِّهِ دونَ زيادةٍ أو نُقصانٍ، هذه الدعوةُ للثورةِ والتَّمَرُّدِ على الرغمِ من زرعِهَا الرُّعبَ في نفوسِ أولئكَ الذينَ لم يعرفوا منذُ الأزلِ غيرَ هيمنةِ البَشرِ، سوفَ تَشقُّ طَريقها شيئاً فشيئاً، حتى حلولِ اليومِ الذي سوفَ تنتفضُ فيه جميعُ الحيواناتِ انتفاضةَ حيوانٍ واحدٍ، وتتمكَّنَ من طردِ مالِكيها وكل مُستخدَميهم من المزرعةِ.
وفي أوجِ الفخرِ بهذا الإنجازِ العظيمِ، قَرَّرَ المجتمعُ الحيوانيُّ الجديدُ تنظيمَ أمورَ الحكمِ بنفسهِ، وتأسيسَ مزرعةٍ رائعةٍ لاَ أثرَ للبشرِ فيها، حيثُ تحكمُ الحيواناتُ نفْسَهَا بنفْسِهَا، ولأجلِ بُلوغِ هذا الهدفِ النبيلِ اختارتْ ثلاثةَ خنازيرَ تُثقِنُ القراءةَ والكتابةَ والْمُسَمَّاة: 'نابليون'، 'كرة الثلج' و'اللامعة بابل'، لوضعِ دستورٍ مختصرٍ بدونِ لَفِّ ولاَ دَوَرَانٍ حول الأبواب والمواد والفصول، مُكوَّنٍ من سبعةِ وصايَا تُنَظِّمُ الحياةَ داخلَ المزرعةِ وتَضْبِطُهَا، وجعلوا حَجَرَ زَواياهُ ترتكزُ على المساواةِ والتضامنِ ورفضِ كلِّ ما يَمُتُّ بصلةٍ للجنسِ البشرِي، وجاءتْ موادُّ الدستورِ أو الوصايا السبع-التي تـَمَّتْ كتابتها بأحرفٍ بيضاءَ كبيرةٍ على حائطٍ مصبوغٍ باللونِ الأسودِ، بحيثُ يمكنُ قراءتُها على بُعْدِ ثلاثينَ متراً- على الشكل التالي:
1. كلِّ ذِي قائِمَتَيْنِ هُوَ عَدُوٌّ،
2. كلُّ ذِي أربعةِ قَوَائِم أو طائرٍ يَطيرُ هُوَ صَدِيقٌ،
3. يُمنَعُ عَلَى أيِّ حَيوانٍ ارتداءُ الملابسِ،
4. يُمنَعُ عَلَى أيِّ حَيوانٍ النَّومَُ في سريرٍ،
5. يُمنَعُ عَلَى أيِّ حَيوانٍ شُرْبُ الكُحُولِ،
6. يُمنَعُ عَلَى أيِّ حَيوانٍ قتلُ حيوانٍ آخرَ،
7. جميعُ الحيواناتِ مُتساويةٌ.
ومرت الأيام بسرعة مرور السحاب منذ وضع أول دستور للحيوانات وتطبيقه على أرض الواقع، ومسحت الأمطار الوصايا السبع، ولم يستطع الحمار المسمى 'مَلَبَارْ' السفيه أن يتهجأ إلا بصعوبة بالغة كل ما تبقى من حروف هذه الوصايا على الجدار:"كل الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة من غيرها"، لقد كشفت التجارب الحياتية وطبيعة الحيوانات -وليس النصوص المكتوبة حبرا على ورق- على أن بعض الصلاحيات الواردة في الوصايا السبع أصبحت مع مرور الزمن والتغييرات التي طرأت عليها تُـحَسِّنُ الظروف المعاشية للخنازير بشكل غير متوازن وغير متساو كما نص على ذلك الدستور الأول، وذلك على حساب باقي الحيوانات الأخرى، مما مكن الخنازير بالاستئثار والانفراد بالسلطة، واستعباد باقي الحيوانات الأخرى، وتزوير أحداث التاريخ، وتشويه المثل التي نادت بها الوصايا السبع، مما قوض أي أمل حقيقي لجميع الحيوانات للانسجام والتوافق والتعايش بسلام داخل المزرعة، وتبخر حلم تأسيس مزرعة تنعم فيها كل الحيوانات بالحرية والاستقلالية والمساواة في الحقوق والواجبات، ثم ما لبث المجتمع الحيواني أن قَلَّدَ البشرَ في حكمهم المبني على اللامساواة والاستعباد والاستغلال والظلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق