"إلى عُزْلَتِكَ يَا صَدِيقِي، إِلَى الأَعَالِي حَيْثُ تَهُبُّ الرِّيَاحُ الرَّصِينَاتُ، لِأَنَّك لَمْ تُخْلَقْ لِتَكُونَ صَيَّاداً لِلْحَشَرَاتِ"فريدريك نيتشه
فعاشق الحقيقة بالنسبة لنيتشه يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفا لعقيدته، فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد بالأخذ بها، إياك أن تقف حائلا بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين، عليك أن تخوض كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك". ولا غرو أن يظهر ذلك جليا في إحدى مقالاته التي انتقيتها من رواية 'هكذا تكلم زرادشت' وتحمل عنوان 'حشرات المجتمع':
سارع إلى عزلتك يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخب عظماء الرجال وآلمتك وخزات صغارهم، إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيها بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره.
على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم، لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، والشعب يدعو ممثليه رجالا عظاما غير أنه يسيئ فهم العظمة المبدعة، فيبتدع من نفسه المعاني التي يجمل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة، إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السُنن الجديدة، وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوثيرة يسير العالم.
إن للاعب الأدوار ذكاءه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج وإلى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم فيه، غدا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غد سيستبدل بها أَجَدَّ منها، ففكرته تشبه الشعب تذبذبا وتوقدا وتقلبا، إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه، وبإيقاد النار حجته، وبإراقة الدماء أفضل حجة وأقوى دليل، إنه ليعتبر هباء كل حقيقة لا تسمعها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة.
إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره، ولكن الساعة تتطلب السرعة من هؤلاء الأسياد، فهم يزحمونك يا أخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إن وقفت حائرا بين "نعم" وبين "لا"، وإذا كنت عاشقا للحقيقة فلا يغرنك أصحاب العقول الرعناء المتصلبة، وما كانت الحقيقة لتستند يوما إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلبين.
دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع "نعم" وتمرد "لا"، إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها، ولا تقوم عظمة إلا بعيدا عن ميدان الجماهير وبعيدا عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصية من أبدعوا السُّنَنَ الجديدةَ في كل زمان.
اهرب يا صديقي إلى عُزلتك، لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء، لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدَّسَّاسُ وقد أصبح كل همهم أن ينتقموا منك، لا ترفع يدك عليهم فإن عددهم لا يُحصى، وما قُدِّر عليك أن تكون صَيَّاداً للحشرات، إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كُثُرٌ، ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروح شامخات، ما أنت بالصخرة الصلدة، ولشد ما فعلت بك القطرات، ولسوف يتوالى ارتشاقها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيما.
لقد أرهقتك الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بكبريائك لتكظم غيظك، وهي تود لو أنها تمتص كل دمك معتبرة أن من حقها أن تفعل، لأن دمها الضعيف يطلب دما ليتقوى، فهي لا ترى جُناحاً عليها في أن تَنْشُبَ حمتها على جلدك، إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف فتتدفق صديدا يرتعيه الدود، ورغم ذلك أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سم استبدادها في دمك.
إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفا إليك كي يتحكموا في جلدك ودمك، إنهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء، إنهم يفكرون بك كثيرا في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر به الناس كثيرا تحوم حوله الشبهات، إنهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك ولا يغتفرون لك من صميم فؤادها إلا ما ترتكب من الخطأ، إنك كريم عادل لذلك تقول في قرارة نفسك:"إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة"، لكن نفوسهم المريضة تقول في نجواها:"إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة".
ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات، إنك لتقهرهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرورا، إن الناس يطمحون بالطبع إلى إلهاب كل عاطفة تبدو لهم، فاحذر الصعاليك لأنهم يشعرون بصغرهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاما.
ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات، إنك لتقهرهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرورا، إن الناس يطمحون بالطبع إلى إلهاب كل عاطفة تبدو لهم، فاحذر الصعاليك لأنهم يشعرون بصغرهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاما.
أفما شعرت أنهم يصابون بالخرس عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخان النار إذا همدت؟ أجل يا صديقي، فما أنت إلا بطاقة في ضمائر أبناء جلدتك لأنهم ليسوا أهلا لك، ولذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك، إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة لأن العظمة فيك ستزيد أبدا في كرههم لك، فإلى عزلتك يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب الرياح الرصينات، لأنك لم تخلق لتكون صياداً للحشراتِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق