الطوفان الرقمي وموت الإنسان

الطوفان الرقمي
ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي إلى الوجود منذ 20 سنة فقط، غير أنها تطورت بسرعة تصاعدية مذهلة، بحيث يمكن اليوم الإقرار بأن أعداد أجهزة الكمبيوتر الموصولة ببعضها البعض حول العالم أضحت تفوق أعداد البشر، وأصبح هنالك اليوم حوالي 12 مليار جهاز كمبيوتر موصول بالشبكة أي 1.60 جهاز في المتوسط لكل إنسان على كوكب الأرض، مع الفارق الصارخ بطبيعة الحال بين الدول المتقدمة التي تحتل الصدارة والدول المتخلفة التي ترزح تحت نير الجهل والفقر والجوع والاستبداد في مؤخرة اللائحة.
إن الكم المعلوماتي الهائل الذي يتم إنتاجه يوميا في الوقت الراهن على المستوى العالمي يبلغ أرقاما خيالية تصل إلى 2.90 مضروبة في 1018  (أي 2.90 مليار مليار) من البيانات، أو ما يعادل مساحة تخزينية تصل إلى 5.80 مليار قرص صلب (Hard disk) بسعة 500 جيغابايت، وأصبح كل إنسان من سكان الكوكب يتلقى 320 ضعف من المعلوات مما توفره جميع وثائق وكتب ومخطوطات مكتبة الإسكندرية، أي 1200 إكسا بايت (1200 مليار مليار بايت)، ولو تم تخزين هذا الكم الهائل من المعلومات على أسطوانات مدمجة (Cd-rom) لشكلت خطا مستقيما يربط بين الأرض والقمر علما أن المسافة بينهما تصل في المتوسط إلى 404403 كلم.
 ومع مطلع فجر اختراع الطباعة الحديثة من طرف الألماني يوهان غوتنبرغ تضاعف مرتين الكم المعلوماتي المتوفر على مستوى أوروبا برمتها في ظرف خمسين سنة ما بين 1453 و 1503، فانطلقت نهضة أوروبية خلاقة أو ثورة ثقافية بصحيح العبارة، وتبعا لذلك تم طبع 8 ملايين كتاب آنذاك، أما في الوقت الراهن فإن الكم المعلوماتي أضحى يتضاعف كل 3 سنوات أي ما يفوق 30 % بقليل كل سنة، إضافة إلى ذلك لم يكن سنة 2000 سوى بتbit’ ' ( البت هو أصغر وحدة حاملة للمعلومة) معلوماتي واحد من أصل أربعة بصيغة رقمية، أما اليوم فإن 90 % من المعلومات المتداولة عالميا أصبح كذلك، وتجدر الإشارة على أن 90 % من هذا الكم المعلوماتي الحالي تم إنتاجه فقط خلال سنتي 2011-2012، وأن 95 % من التدفق المعلوماتي على المستوى العالمي ما بين الدول والقارات يمر عبر  آلاف الكيلومترات من كابلات الألياف البصرية  التي تقبع في أعماق المحيطات والبحار. 
لم يكن من الممكن الوصول إلى هذا المستوى من الطوفان المعلوماتي بدون الحديث عن مراكز تخزين البيانات المنتشرة حول العالم، والتي يبلغ عددها في الوقت الراهن 500000 مركز بيانات، أي ما يوازي إنتاج 30 محطة نووية، وتستهلك هذه المراكز 1.40% من الطاقة الكهربائية العاليمة، ويُخَصص ما يصل إلى 30% من هذه الطاقة لتبريد هذه المراكز الضخمة التي تعمل بدون انقطاع بالليل كما بالنهار للحيلولة دون ارتفاع حرارتها إلى مستويات قياسية تهدد بنسفها وتحويلها إلى خردة من المعادن والفلزات والبلاستيك يعافها البشر وتعافها البيئة الطبيعية أيضا.
قالت الأوائل الشيء إذا فات حده انقلب إلى ضده،  فمنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ما فتئت الأمور تسير بسرعة أكثر فأكثر، لدرجة أن قوة الحواسيب تتضاعف كل سنتين، وقد تم ضربها ألف مرة خلال عشر سنوات، ومليون مرة خلال عشرين سنة، حتى أن عددا كبيرا من المفكرين صرح على أن هذه السرعة في التقدم التقني تقربنا من نهاية العالم، فتقنيات مثل الهاتف الخليوي والإنترنت والاستنساخ والتعديل الوراثي أضحت تغير نمط معيشتنا وحياتنا من أسبوع لآخر بل من ساعة لأخرى، وهو ما أطلق عليه الفلاسفة اسم ''التفرد''، يعني الزمن الذي سوف تتطور فيه التكنولوجيا بسرعة جنونية، وتحدث تغيرات جوهرية في المجتمعات البشرية على إيقاع  سوف يضحي جحيما غير محتمل من الناحية الإنسانية، مجتمعات ستكون فيها الغلبة وسيكون فيها السؤدد والمال والسلطة لأصحاب المذهب المادي الراديكالي الذين سوف يصبحون مثل الآلهة، لأن تقنية النانوتكنولوجيا وعلم الوراثة والمعلوميات سوف تمكنهم من تغيير أجسادهم وجنسهم والسعي لاستنساخ نظراء لهم في أمل المد في أعمارهم، والعبث بكل ما يحيط بهم من مخلوقات قصد الاستجابة لجميع نزواتهم مهما صغرت ومهما دنت وانحطت، وهذا السيناريو في نظري هو نهاية العالم ليس من الناحية المادية بل من الناحية الإنسانية والأخلاقية.