مجرمون أثرياء فوق كل الشبهات

"كيف يمكن أن تُطالب شخصا يتلاعب بالملايين يوميا أن يكون عنده حس إنساني أو أخلاقي" جون زيغلر
مجرمون أثرياء فوق كل الشبهات
يقول 'جون زيغلر' المفكر والكاتب السويسري الغني عن التعريف الذي شغل منصب المقرر الخاص لدى الأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء في الفترة ما بين 2000 و 2008: "في قلب هذه السوق المعولمة يوجد اللص أو النهاب، إنه إما مدير بنك كبير، أو إما موظف كبير في شركة متعددة الجنسيات، وإما مضارب في مجال التجارة العالمية، ما هي مهمته في هذه الحياة؟...تجميع الفلوس إلى ما لا نهاية، تدمير الدولة بحجة أنها قاصرة عن إدارة الشؤون الاقتصادية، استباحة الطبيعة والكائنات البشرية باعتبارها مجرد أرقام، انعدام الحس الإنساني باعتباره شيئا رجعيا متخلفا عفى عليه الزمن، فكيف يمكن أن تُطالب شخصا يتلاعب بالملايين يوميا أن يكون عنده حس إنساني أو أخلاقي".
تأوي الغابات حوالي 300 مليون إنسان حول العالم، ويعيش ويتكسب منها حوالي 1,60 مليار إنسان، وزيادة على ذلك فالغابات تؤدي عدة وظائف إيكولوجية تحد من الانهاك البيئوي و تحافظ على التنوع البيولوجي والمياه والتربة والامدادات بالماء وتنظيم التقلبات والتغيرات المناخية ضمن نطاق معقول يسمح باستمرار الحياة على الكوكب الأزرق في ظروف عادية، وبدون هذه الغابات سوف تتحول الكرة الأرضية إلى ما يشبه المقلاة التي تقلي قليا حارا جلود البشر والشجر والحجر.
منذ بداية القرن التاسع عشر حتى الآن أي في ظرف 
200 سنة فقط تقلصت المساحة الغابوية على كوكب الأرض من 16 مليون كلم² إلى أقل من نصف هذا العدد نتيجة التدمير الممهنج والمستمر بدون توقف من طرف مَن يخربون بيوتهم بأيديهم، بحيث  يتم تدمير ما يناهز 13 مليون هكتار سنويا من الغابات على مستوى الكرة الأرضية أي ما يناهز مساحة انجلترا كل سنة أو ملعب كرة قدم كل ثانية، واختفاء 100 نوع يوميا من الأحياء والنباتات التي تأويها هذهه  الغابات.
وحسب المعهد العالمي للموارد الطبيعية الذي تم تأسيسه سنة 1982 في واشنطن بالـولايات المتحـدة الأمريكية، فإن 80 % من الغطاء الغابوي العالمي قد تم تدميره أو تدهور بشكل كبير خصوصا خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وترجع أسباب هذا الغباء البشري في تدمير بيئته الطبيعية وإفقادها توازنها الإيكولوجي إلى  أسباب مختلفة تتجلى في الاستغلال المنجمي للبحث عن المعادن الثمينة مثل الذهب والكوبالت والنيكل والأحجار الكريمة، والتنقيب المحموم عن الدماء التي تضخ الحياة في الشرايين المتصلبة للحضارة المعاصرة، والتي بدونها سوف تتوقف دورتها وتصاب بالشلل التام وتدخل في مرحلة الاحتضار وأعني بذلك النفط، إضافة بطبيعة الحال للانفجار الديمغرافي الذي تنتج عنه قنابل موقوتة مثل التوسع العشوائي والغير مضبوط للتوسع العمراني وشق الطرق السيارة والسكك الحديدية و طرق المواصلات وسط الغابات، دون نسيان الاستغلال المفرط والغير منظم للمجال الغابوي بحثا عن الخشب الثمين وتحويل مساحات شاسعة من هذه الغابات إلى مناطق زراعية مكثفة لإنتاج مزروعات بثمن بخس نزولا عند رغبات  وطلبات الرجل الأبيض القاطن بالشمال.
إن السياسات المنافقة المتبعة من طرف دول الشمال اتجاه الدول النامية أو دول الجنوب تتجلى بشتى صورها في تلويث هذه الدول بشتى الوسائل والطرق، وإغراق أراضيها ومياهها وغاباتها وصحاريها بالمواد الخطرة والمحظورة والنفايات والمخلفات السامة والمشعة، والخردوات المتخلى عنها من سيارات وتجهيزات متنوعة وآلات صناعية بل حتى الأسلحة الصدئة المهترئة والمنتهية الصلاحية والتي لا تليق إلا أن يرمي بها الجندي نفسه، إضافة لاجتثاث غاباتها وأحراشها و توريطها أخيرا كغنائم في شباك الأبناك الربوية العالمية مثل البنك الأوروبي للتنمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كي تغرق في يم الديون الخارجية حتى الأذنين، وتضحي بذلك خرساء بكماء لا تقوى على الكلام  أو الاحتجاج عما يُفعل بها وما يُراد لها.
ومن الأمثلة الحية الصارخة، على سبيل الذكر لا الحصر، هي تلكم  المجازر البيئية بحق الطبيعة التي تُرتكب في عصر الفضاء والأقمار الصناعية والمعلوميات بغابات الأمزون، حيث يتم اجتثاث مساحات شاسعة من الغابات المطيرة، التي تعتبر بمثابته رئتي العالم أجمع  لتنقية وتطهير دمائه من الشوائب والتلوث، وتعويض التبر بالتراب: فلاحة فول الصويا مكان الغابة تلبية للطلب المتزايد من طرف دول الشمال المنافقة التي تدفع بالعالم بخطى ثابتة نحو الانتحار الجماعي البطيء، وفي الجانب الآخر من الكرة الأرضية تعرف غابات إندونيسيا وماليزيا هي الأخرى  مصيرا قاتما مشابها لما يحدث في غابات الأمزون، وتتم هذه الجرائم البيئية تلبية كذلك لرغبات الرجل الأبيض ذي العيون الزرق للحفاظ على بيئة بيضاء ومياه زرقاء بلون السماء في موطنه الأصلي.
فإذا كانت غابات الأمزون بعد اجتثتاها وتحويلها إلى أراضي فلاحية لإنتاج فول الصويا قصد تلبية حاجيات حيوانات أوروبا المريضة التي أنهكها وباء جنون البقر الناجم عن الغش والجشع اللذان يسريان في دم الرجل الأبيض منذ الأزل من أجل الربح السريع، وتلبية لحاجيات شركاته الأخطبوطية للمنتجات الغذائية الصناعية، فإن إندونيسيا وماليزيا قد حولتا غاباتهما إلى أراضي زراعية لإنتاج زيوت النخيل تلبية لحاجيات المنتجات الغذائية ومستحضرات التجميل وبدرجة كبرى تلبية للحاجيات المتزايدة من أجل إنتاج الوقود الحيوي تعويضا للوقود الأحفوري حتى تبقى أوروبا نقية نظيفة.
في حين يصدر صوت نشاز للرجل الأبيض على كل المنابر الدولية والجهوية والإقليمية يتحدث عن هدفه المسطر والمتمثل في تحقيق 20% بما يُسميه الطاقة النظيفة المتجددة في أفق سنة 2020، فيصفق له المغفلون من الناس عرفانا له بتحضره وحنوه واهتمامه بالبيئة الطبيعية، بيد أن الحقيقة المغيبة على العقول تكمن في أن دول الجنوب المغلوبة على أمرها هي التي ستدفع الثمن غاليا مقابل ذلك، من أجل إنتاج وقود حيوي من الزيوت المستخرجة من النخيل بثمن بخس، ولتذهب غابات إندونيسيا وماليزيا وسكانها أجمعين  إلى الجحيم.
إن هذه الغابات تمتص ثاني أوكسيد الكربون الذي يعتبر السبب الرئيسي للاحتباس الحراري، وتدميرها لن يزيد الأمور إلا سوء واستفحالا على المستوى العالمي بدرجات متفاوتة، إذ يتسبب حاليا تدمير الغطاء النباتي والغابات المطيرة بإندونيسيا في انبعاث 1,80 مليار طن من ثاني أوكسيد الكربون أي 4 من الانبعاثات السنوية في العالم من مساحة لا تتعدى 0,1 % من مساحة اليابسة، وتُشير منظمة 'غرين بيس' في تقرير لها صدر سنة 2007 تحت عنوان 'طبخ المناخ' بأصابع الاتهام لديناصورات الصناعة العالمية أمثال الشركة المتعدد الجنسيات يونيليفر Unilever’  البريطانو هولندية، نستلي Nestlé السويسرية و بروكتر وغامبل Procter and Gumble الأمريكية أكبر المقتـنين لزيوت النخيل الإندونيسية.
فحتى إندونيسيا التي كانت إلى وقت ليس ببعيد يُضرب بغاباتها المثل في غناها وتنوعها البيولوجي أضحت حاليا ثالث أكبر ملوث عالمي بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ويرى العديد من الخبراء أن أكثر من 25 من انبعاثات الغازات المتسببة في الاحتباس الحراري تأتي نتيجة مباشرة لاجتثاث الغابات المطيرة، وخلال الخمسين سنة الأخيرة تم تدمير أكثر من 74 مليون هكتار من الغابات الإندونيسية، وتتوقع الأمم المتحدة أن 98 من غابات إندونيسيا المطيرة سوف تختفي بحلول عام 2022.
ولتسمية الأمور بمسمياتها فإن هذه الجرائم البيئية هي التي يجب أن تُسمى بحق 'جرائم ضد الإنسانية' لأنها تضع مآل البشرية جمعاء والكرة الأرضية برمتها على كف عفريت، غير أن الإشكالية الكبرى والمعضلة المستعصية عن الحل تكمن في طرح السؤال التالي: من باستطاعته محاكمة هؤلاء الأثرياء المجرمين؟... لأن ما يسمى ب'العدالة' و'القانون الدولي' و'حقوق الإنسان' تنحني جميعها ويتقوس ظهرها من الجبن والخضوع والاستسلام بمجرد وقوفها أمام هؤلاء الأثرياء من عتاة المجرمين!