الَبْلاَدْ اللِّي تْخَلِّيكْ فَالَعْرَا وُالَحْفَا احْلَفْ عْلِيهَا غِيرْ حَلْفَة وُمَا تْزِيدْ فِيهَا حَتَّى خَلْفَة
حَلْفَة أي قَسَمٌ، وخَلْفَة أي خُطْوَةٌ، فالبلد الذي يتركك في العراء والحفاء، ولا يحفظ عزتك وشرفك وكرامتك وإنسانيتك، ولا يوفر لك ضروريات العيش الكريم، فهذا بلد لا يستحق منك غير أن تقسم عليه بأغلظ الأيمان بـأن لا تبدل في سبيله ولو مجرد خطوة واحدة، فما بالك أن تضحي من أجله، ولعل قول الرسول الأكرم (ص) أبلغ وأصدق إنباء من جميع الأقوال والكتب: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم".
إِلَى شَفْتِي الرَّاجْلْ فَالجْمَاعَة سَاكْتْ وُمَا دَاوِي اعْرَفْ بَاللِّي جِيبُو خَاوِي
سَاكْتْ أي صامت، ما داوي ما نافية ودَاوِي مشتقة من دَوَّى يُدَوِّي أي أحدث صوتا مرتفعا ومن هنا جاء دَوِيُّ المدافع، فإذا رأيت رجلا صامتا ومنزويا في ركن بعيد عن المتفوهين الثرثارين، فاعلم أنه فقير معدم وبأن جيوبه خاوية على عروشها، يعني بالعامية المغربية 'حَازَقْ مْحُوزَقْ'، وهو يُدرك في قرارة نفسه بأن الكل ينفر منه ابتداء من الإنس مرورا بالجان وانتهاء بالحيوان، وفي ذلك قال الشاعر:
يَمْشِي الفَقِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ ضِدَّهُ وَالنَّاسُ تُغْلِقُ دُونَهُ أَبْوَابَهَا
تَرَاهُ مَمْقُوتاً وَلَيْسَ ِبمُذْنِبٍ يَرَى الْعَدَاوَةَ وَلاَ يَرَى أَسبَابَهَا
حَتىَّ الْكِلاَبُ إِذَا رَأَتْ رَجُلَ الْغِنَى حَنَّتْ إِلَيْهِ وَحَرَّكَتْ أَذْنَابَهَا
وَإذَا رَأَتْ يَوْماً فَقِيراً مَاشِيّاً نَبَحَتْ عَلَيْهِ وَكَشَّرَتْ أَنْيَابَهَا
مَنْ كَانَ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ تَعَلَّمَتْ شَفَتَاهُ أَنْوَاعَ الكَلاَمِ فَقَالاَ
وَتقَدَّمَ الإِخْوَانُ فَاسْتَمَعُوا لَهُ وَرَأَيْتَهُ بَيْنَ الْوَرَى مُخْتَالاَ
لَوْلاَ دَرَاهِمَهُ الَّتيِ يَزْهُو بِهَا لَوَجَدْتَهُ فِي النَّاسِ أَسْوَأَ حَالاَ
إِنَّ الغَنِيَّ إِذَا تَكَلَّمَ مُخْطِئاً قَالُوا صَدَقْتَ وَمَا نَطَقْتَ مُحَالاَ
أَمَّا الْفَقِيرُ إِذَا تَكَلَّمَ صَادِقاً قَالُوا كَذِبْتَ وَأَبْطَلُوا مَا قَالاَ
إِنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا تَكْسُو الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَمَالاَ
فَهِيَ اللِّسَانُ لِمَنْ أَرَادَ فَصَاحَةً وَهِيَ السِّلاَحُ لِمَ نْ أَرَادَ قِتَالاَ
وقال أيضا سيدي عبدالرحمان المجذوب قولا رائعا (المجذوب):
ضْرَبْتْ كَفِّي لْكَفِّي وُخَمَّمْتْ فالأَرْضْ سَاعَة
صَبْتْ قَلّْة الشِّي تْرَشِّي وُتْنَوَّضْ مَنْ الجْمَاعَة
خممت أي تأملت، تنوض من الجماعة أي تُبْعِدُ عن الجماعة، صَبْتْ أي وجدت، قلة الشي هي الفقر والحاجة، ترشي ترد الشيء باليا ومتداعيا، فالفقير دائما يهرب منه الناس ويتجنبون مجالسته والحديث معه، بل يتحاشون حتى مجرد النظر إليه، ألا بئس النفاق والرياء اللذين يسكنان الأنخعة الشوكية للناس.
اللَّهُمَّ النْعَاسْ فَالَخْلاَ وَلاَ ضِيَافَة الْبُخَلاَ
النوم في الخلاء أفضل من ضيافة البخلاء، فكل العيوب تشيب إلا البخل الذي يبقى شابا في سوء ظنه، وفي خمول همته، وفي ضعف رؤيته، وفي سوء اختياره، وفي مبالغته في التقتير على نفسه، ومهما تكن ثروة البخيل فإنه لا يستحق أدنى اهتمام، لأنه لا خير يُرتجى على الإطلاق ممن يعيش طول حياته فقيرا لكي يموت أخيرا غنيا، فلو كان فيه مثقال ذرة من خير لكان بدأ من نفسه فأكرمها وكرمها.
الدُّنْيَا دَرَّاعَة كُلّْ وَاحْدْ كَيَلْبَسْهَا سَاعَة
الدنيا كمثل دراعة، والدراعة هي عبارة عن لباس صحراوي فضفاض يغطي سائر الجسم، كل إنسان عاش فيها يتصور أنه لم يلبث فيها إلا ساعة وهو ما تم التعبير عنه كَيَلْبَسْهَا سَاعَة، ثم تُنْتَزع منه رغما عنه ليُرمَى به في حفرة بالمقابر عاريا كما جاء إلى الدنيا عاريا، ويُضرب المثل على أن دوام الحال من المحال، وصدق كعب بن زهير لما قال:
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ يَوْماً عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
اللِّي ضَرّْقَكْ بْخِيطْ ضَرّْقُو بْحِيطْ
ضَرّْقَكْ أي حجبك، بْحِيطْ أي بحائط، من جعل بينك وبينه خيطا ليحجبك عنه، فابن بينك وبينه حائطا لتنقطع عنه، فاللهم المنية ولا الدنية، وكما قال صاحب الكوميديا الإلاهية الشاعر الإيطالي دانتي: بين المغرور بماله والفقير الأبي أختار أن أكون الثاني.
عْرُوقْ المْحَبَّة صَارُوا فَالكَرْشْ
العروق التي تغذي المحبة وترعاها أصبحت في الكرش أي البطن، وقد قيل مرة لرجل من الأعراب: ما بال الحب في أيامنا هذه على غير ما كان عليه قبل اليوم؟ فأجابه: أي نعم، لقد كان الحب بالأمس في القلب فانتقل اليوم إلى المعدة، وكثير من الناس قد يقلبون موالاتهم بل حتى قناعاتهم وإيمانهم بمجرد ما تحشو كروشهم، وإن حدث وقطعت عنهم ذلك فلا هم شكروك ولا بخير ذكروك.
بِالْمَالْ وَلاَّوْ الشْمَايْتْ رْجَالْ
بالمال أصبح حتى حثالات المجتمعات يَدَّعُونَ الرجولة، فتقدموا الصفوف الأمامية، وشغلوا المناصب السامية، وفُتحت لهم كل الأبواب، وانحنت لهم كل الرقاب، وصار العالم تحت رحمة مجموعات من الصعاليك والعصابات المجرمة الفاسدة التي لا تكون إلا أقلية، تكتب بيدها القانون وتُشَرِّعُهُ، ثم تسرق أموال الشعوب بالقانون، وتقتل من يهدد مصالحها بالقانون، وتسجن الثائرين عليها بالقانون، وتتحكم في مصائر الملايير من البؤساء من المعذبين في الأرض، بئس الرجال واللعنة عليهم.
الْحِيطْ الْحَادَرْ يِنَقْزُو عْلِيهْ الَكْلاَبْ
الحائط القصير تجرؤ حتي الكلاب على القفز فوقه، بل قد تدفعها جرأتها إلى التبول عليه، ويُضرَب المثل للإنسان المتسامح الخلوق مع أناس هذا الزمان، الذين يظن مرضى النفوس منهم أن ذلك ضعفا ونقصا في الرجولة، فيتحولون إلى مخلوقات أشد ظلما وعدوانا واضطهادا من الكلاب، التي في كل الأحوال تبقى أرحم منهم وأوفى بكثير.
اللِّي مَا يَفْهَمْشْ بَالإِشَارَة الَكْلاَمْ مْعَاهْ خْسَارَة
من لا يفهم بالإشارة الكلام معه خسارة، فالحر بالغمزة والعبد بالدبزة (بالضرب) كما يقول المثل السائر، فما الفائدة من الكلام مع من لا يفهمك سوى إضاعة الوقت والجهد، وماذا بإمكان المرء العاقل أن يفعل مع من لا يستجيب لإشاراته سواء لغبائه أو لظنه في قرارة نفسه أنه أفضل من كل الناس في كل شيء.
نَحْفَرْ بَظْفَارِي أُو نْهَزّْ بَشْفَارِي أُو مَنْتْرَجَّاشْ الدّْرَارِي
أحفر الأرض بأظافري وأحمل الأثقال بأشفاري ولن أترجى الدراري (حديثي السن)، وأموت وأنا واقف مرفوع الرأس بشمم وإباء كالشجرة، ورحم الله أبا الطيب المتنبي الذي قالها صادحة مدوية:
عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمُ بَيْنَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ
فَاطْلُبِ العِزَّ فِي لَظَى ودَعِ الذُّ لَّ وَلَوْ كَانَ فِي جِنَانِ الْخُلُودِ
مَا يَسْتَرْ هْبَالَكْ غِيرْ دَارَكْ
لا يستر عيوب المرء ونواقصه إلا داره، وهو يبقى في كل الأحوال في دور الآخرين غريبا مَنْقُوصَ وَمُصَادَرَ الحرية ومشلول الإرادة حتى ولو كان لهؤلاء حبيبا أو قريبا، وقد قال في ذلك المصطفى (ص) قولا بليغا موجزا ورائعا: "الْمُؤْمِنُ يَسَعُهُ بَيْتُهُ".
مَا كَاتَّنْفُخْ غِيرْ الجِّيفَة
وهذا المثل يخاطب المتكبرين والمترفعين والمستعلين في الأرض على الناس، لأٍنهم بتصرفهم هذا لا يختلفون في شيء عن الجيف في قذارتها ونتنها، وهم في كل الأحوال مثل سائر بني البشر، يسري عليهم الناموس الأزلي: فأول وجود لهم في الحياة مجرد نطف من ماء مهين يخرج من أقدر عضو في جسم الإنسان، وآخرهم جيف يشمئز من روائحها حتى أقرب المقربين منهم الذين يسابقون الزمن للتخلص منهم بأسرع وقت.
لاَ تْصَاحْبْ حَتَّى تْجَرَّبْ وُلاَ تَضْرَبْ حَتَّى تْقَرَّبْ
لا تصاحب أحدا حتى تجربه حتى لا يعود عليك ذلك بالندامة، ولا تضرب عدوك حتى تقترب منه بما فيه الكفاية لكي لا تخطأه، وقد جاء في أمثال شعبية مغربية 1 'مَا تَشْكُرْ مَا تْلُومْ حَتّى تْكُونْ مْعَاشْرَة وُتْدُومْ وُحَتّى تَمْرَضْ وُتْقُومْ'، وهو مثل يؤدي نفس المعنى.
كُلّْ وَاحَدْ كَيَتْجَازَى عْلَى قَدّْ فَعْلُو
كل إنسان يجازى على قدر فعله، وكيفما يَدِينُ المرء يُدَانُ، وهذه من سنن الله جل جلاله الثابتة والتي لا تتغير ولا تتبدل في الكون، والتي نُسِجَ على منوالها نظام هذه الحياة، فالجزاء يكون دائما من جنس العمل، وكأنما الدنيا تشبه جدول ضرب في الحساب، أو معادلة رياضية كيفما قلبها المرء وشقلبها ليمحي آثار ظلمه وطغيانه وعدوانه، وازنت نفسها من تلقاء نفسها رغم أنفه، فكل جريمة تجد جزاءها بدون ضجيج، وكل فضيلة تكافأ بدون أية بهرجة، وكل خطأ يُجازى في صمت وبكل تأكيد، وليس في هذه الدنيا الواسعة المترامية الأطراف مكان يختفي فيه أو يلجأ إليه قاتل أو ظالم أو سافل أو نذل أو لص، وكأنما الأرض كلها صنعت من زجاج شفاف.
إِلَى شَفْتِي مُولْ الدَّارْ يَضْرَبْ الْبَنْدِيرْ لاَ تْلُومْ الدّْرَارِي
الدّْرَارِي هم الأطفال الحديثي السن، فإذا رأيت رب البيت يرقص ويتمايل بأردافه كالمخنث على إيقاعات البندير ويشجع أهله على ذلك، فلا تتفاجئ من قلة أدب وسوء تربية وأخلاق أطفاله، وانعدام الاحترام فيما بين أفراد أسرته، ولله در الشاعر سبط بن التعاويذي لما أنشد وأجاد:
وَقَالُوا اسْتَبَانَتْ يَا ابْنَ عُرْوَةَ إِبْنَتُكَ فَقُلْتُ لَهُمْ مَا ذَاكَ فِي حَقِّهِ نَقْصُ
إِذَا كَانَ رَبُّ البَيْتِ بِالدُّفِّ ضَارِباً فَشِيمَةُ أَهْلِ البَيْتِ كُلِّهِمُ الرَّقْصُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق