"تُعْرَفُ حَمَاقَةُ الرَّجُلِ فِي ثَلاَثٍ: فِي كَلاَمِهِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ، وَجَوَابِهِ عَمَّا لاَ يُسْأَلُ عَنْهُ، وَتَهَوُّرِهِ فِي الأُمُورِ." الإمام علي كرم الله وجهه
حدثنا وأمتعنا في مديح الحماقة مع مطلع القرن السادس عشر وبالضبط سنة 1515
رائد الحركة الإنسانية في أوروبا الفيلسوف الهولندي دسيدريوس
إراسموس (1466-1536) فقال: أنا الحماقة التي يتحدث عنها حتى أكثر الناس حماقة بالسوء، أنا
الحماقة التي تمدح نفسها، وما أفضل أن تمدح الحماقة نفسها بأسلوب وقح، ومن لا يملك
صديقا يمدحه فليمدح نفسه، فأنا لم يمدحني أحد أبدا على مر العصور، ولم يذكر أحد
كرمي ولم يعرف أحد قدري، لذا لن أدع أحدا يسألني من أنا، ولن أُعَرِّفَ نفسي أنا
التي تُبيح كل الأفعال والأقوال.
اليونانيون يسمونني Moria والإنجليز يسمونني Folly، فإن لم يكن مظهري يعبر عن جوهري فلن
أُعَرِّفَ نفسي أكثر من هذا، أنا لا أريد أن أخدع أحدا، وأفتخر بنفسي ولا أبالي بما يقوله الناس عني، لأنني أعلم
حقيقتهم جيدا، وأعلم أنهم يسخرون مني، بينما هم في الواقع يفعلون ما أفعل، ومثل
هؤلاء لا يستحقون مني أدنى احترام لأنهم يضللون الناس بالعناوين البراقة والمظاهر
الكاذبة وكلام الحكماء، ويمشون في الأرض مرحين متفاخرين متباهين بأنفسهم، إلا أن
حقيقتهم سَتُكْشَفُ للناس طال الزمان أو قصر، فما أقبح ناكري الجميل الذين يظهرون
للناس أنهم الفضلاء بينما أنا أدعوهم بالحمقى.
ومن بين هؤلاء الحمقى المتميزين أولئك الذين يطلقون على
أنفسهم نخبة المجتمع ذووا الأصل الشريف العريق الذين لا نهاية لأحاديثهم الطويلة والمملة، يذكرون هذا
بسبب أو بدون سبب وفي كل المناسبات لمجرد التباهي بالعائلة، إنهم في الحقيقة أكبر
مثال على معنى التفاهة، إنهم لا يتحدثون عن أنفسهم ماذا صنعوا وماذا قدموا لبلدهم،
أو ما هي إنجازاتهم في الحياة، لأنهم لا يمتلكون شيئا من هذا، لذا يتبجحون
ويفتخرون بأصولهم وعائلاتم وديبلوماتهم، وكل ما فعلوه أنهم وجدوا أنفسهم في هذه
الحياة الدنيا يملكون ثروات طائلة دون كد ولا جهد، وكل ما يفعلونه هو تبديد هذه الثروات
فيما لا يستحق الإنفاق عليه، ووسيلة هاته الفيروسات الوحيدة للسعادة هي حب الذات،
وإن سألتهم ماذا يعملون، أجابوك لماذا نعمل فالعمل هو للفقراء، ألا ترى أن هؤلاء
الحمقى هم قمة الحماقة؟
وسيد الفن هو حب الذات، الذي هو شيء طبيعي عند الناس
الذين يذلون بآرائهم الحمقى، فالممثلون والفنانون والشعراء والمثقفون والسياسيون
الذين يُقَدِّرُونَ أدوار الجهل يُسْعِدُونَ أنفسهم مثل الشفاه التي تلمع على
الرغم مما يخرج منها من التفاهة، فمعظم الناس يخضعون للحماقة، وكلما كان الشخص
أكثر حماقة كلما كان سعيدا أكثر، وكلما ازداد إعجاب الناس به، لأن الحقيقة المرة التي
لا تسعد إلا النذر القليل من الأخيار المهمشين ستكلفه العناء وستجلب له المشاكل
والمتاعب طوال حياته.
أما إذا تحدثنا عن حماقة الشعوب، فعليك أن تعرف أن
الطبيعة تؤثر في كل الناس، ومن النادر أن تجد شعبا في أي جزء من العالم لا ينتشر
فيه حب الذات الذي هو نوع من الحماقة، وكأمثلة على ذلك فالشعب الإنجليزي يمدح نفسه
باستمرار بحب الموسيقى والجمال في جميع المناسبات والأعياد، والشعب الفرنسي يرى
أنه شعب ناضج وراق في أسلوبه، والشعب الفارسي لا يبالي بأحد ويظن أنه الأفضل على
الإطلاق، والشعب الإيطالي يدعي أنه رائد النهضة العصرية، والشعب اليوناني يدعي أنه
مؤلف العلوم وكل النظريات ويفتخر بمهاراته في استخدام السحر.
إن الحياة بدون حماقة تعني حياة بدون سعادة، لأن الحكمة
وحدها لا تكفي، فوجود الحماقة هام في حياتنا، وكما يتعلم المرء الحكمة فمن الواجب
عليه أن يتعلم الجنون والحماقة أيضا، ولَأَنْ يـُخفي المرء في نفسه الحماقة أفضل
بكثير من أن يبطن الحكمة، فحلاوة الحماقة يتذوقها الجميع، غير أنه لا يوجد من يقدس
الحماقة ويحترمها، ولا يوجد من يبني للحماقة ضريحا يليق بها تعظيما وتخليدا لها.
وكما أن حب الذات هو نوع من الحماقة، فإن التملق هو أيضا
نوع من الحماقة، غير أن الفرق بينهما هو أن مريض حب الذات يمدح نفسه بينما مريض
التملق يمدح غيره، وكلاهما لا يستحق المدح، فبفضل التملق تستطيع إقناع أي شخص بأي
أمر، فهو كالسحر يؤثر على الأذهان فيشل التفكير ويسحر العقول ويخضعها لما تريد،
لذا تجد التملق أكثر ما يكون عند الملوك والأمراء، والتملق ليس سهلا لأنه يحتاج
إلى لباقة في الحديث، وذكاء في استخدام الألفاظ التي تجعل الكذب صدقا والقبيح
جميلا.
إن التملق يُنْعِشُ حياة الأغنياء، ويُشْفِي المرضى،
ويساعد على ترابط المتحابين واستمرار حبهم المبني على الكذب، ويساعد على تشجيع
الأطفال على التعلم، ويجعل العجوز المسن في حيوية الشاب القوي، وتحت أضواء المديح يمكنك
أن تخبر الملوك والأمراء حتى بأبشع أخطائهم، وأن تخبرهم بأفضل الطرق لإصلاح
المجتمع وإصلاح ما أفسدته هفواتهم وعدم كفاءتهم وأهليتهم، ويمكن اختصار فوائد التملق
في كونه يمنح السعادة للباحثين عنها واللاهثين من شدة الجري من ورائها بالأطنان مجانا، فطوبى للتفهاء والمتملقين والحمقى.