عندما يصبح خرق القانون والضرب به عرض الحائط هو السمة الأبرز للتوجه
السلوكي في الحياة وكسب العيش لدى فئة لا يستهان بها من المتنطعين المستهترين بكل
القيم والأعراف والقوانين، فإننا نجد أنفسنا أمام حالة انحراف فعلي وخطير
في المجتمع، مما يفتح الأبواب على مصاريعها للفوضى العارمة والتسيب الطافح، اللذين
يؤديان لا محالة إلى انهيار التماسك
والسلم الاجتماعيين، وذلك بصرف النظر عن الخطورة المادية لتلك السلوكيات ومدى
فداحة نتائجها، والآثار المترتبة عن ذلك نتيجة التمادي في الظلم وخرق القوانين
وجميع العادات والأعراف في وضح النهار.
وما يثير التساؤول والاستغراب هو الغياب التام للجهات المسؤولة تجاه
ما يحدث من تشويه وتخريب عمراني سواء منه المتعمد والغير متعمد، والتطاول والانتهاك الصارخ للقانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير كما تم تعديله بالقانون رقم 66.12 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء في الكثير من دور الضيافة والمقاهي والمطاعم والعلب الليلية والحانات
والمواخير، التي حولت بقدرة قادر معظم أحياء مدينة مراكش إلى أمكنة مستباحة لأهوائها ونزواتها، وكل
هذا يحدث تحت يافطة تشجيع السياحة، فعن أي سياحة يتحدثون؟ عندما تتحول أسطح وشرفات
بعض هذه المحلات السالفة الذكر إلى منتجعات للتهتك نهارا والسمر ليلا لكل من هب
ودب من الحثالات البشرية.
بحيث تم إنشاء في البعض من هذه المحلات مسابح مائية فوق السطوح لأول مرة في تاريخ مراكش على غرار حدائق بابل
المعلقة، مما يشكل خطرا محدقا بمنازل مراكش الترابية المجاورة لهذه المحلات بالمدينة
العتيقة، والتي من المحتمل أن تنهار في أي لحظة جراء تسربات المياه من هذه المسابح، ويعتبر هذا العمل الأخرق لمرتكبيه وللمرخصين به من سلطات ذات الصلاحية تخريبا متعمدا للنسيج العمراني للمدينة القديمة.
وكما يقول المثل الشعبي 'ما قدهم فيل زادوهم
فيلة'، فشمر هؤلاء الأقوام على سواعدهم من بعدما خلا لهم الجو، فقاموا بتجهيز أسطح
الكثير من هذه المحلات بمظلات على غرار مظلات منتجعات جزر هاواي وأرخبيلات أمريكا
الجنوبية، التي تذكرني بقبعة سانشو الذي كان دائما يتقمص دور رئيس عصابة قطاع الطرق في أفلام الويسترن،
وقد تم أيضا وضع مكبرات للصوت فوق هذه السطوح تصدح بصوت مرتفع ومزعج طوال النهار وحتى ما بعد
منتصف الليل غناء أصفرا متخلفا مثله مثل أصحابه الأنذال، وبرامج إذاعية بائخة
يؤطرها براهيش لا يفقهون في الإعلام
شيئا، لأن الإعلام أولا وقبل كل شيئ رسالة ومسؤولية قبل أن يكون ترفيها وعبثا
لإضحاك الناس على أنفسهم التي يُثير حالها الشفقة حقا.
ولا يخفى على كل ذي عقل سليم ما يتمخض عن هذه التصرفات اللامسؤولة من ضجيج وضوضاء
وتجمع مهين ليلا ونهارا دون أن يردعه قانون، ودون أن يقول فيه الناس الخائفون من الخوف كلمة حق أمام
مجموعة من المتجبرين بالأموال والرشاوي والمعارف، هاته الأقوام المعمية التي لا
أخلاق لها ولا مبادئ ولا قيم، التي استغلت الركوب على حصان طروادة السياحي لبث
سموم دخيلة وغربية على مدينة مراكش وعلى أهلها المغلوبين عن أمورهم، أمام هذا الوحش
السياحي المنطلق بدون كوابح ولا ألجمة، وبدأ يأكل أطراف المدينة، وقرببا سيلتهم أحشاءها إن لم
يكن قد فعل بالفعل.
لقد أطلق انفراط العقد الاجتماعي، وذبول توادد الناس وتراحمهم وتكافلهم
فيما بينهم، وجنون وهستيريا عبدة الدرهم واليورو والدولار على الربح السريع بكل وسيلة سافلة
وساقطة ومنحطة الحبل
على الغارب للعبث بهذه المدينة التاريخية، التي قال فيها قاضي القضاة شمس الدين بن
خلكان رحمه الله في مؤلفه المشهور والغني عن التعريف وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: "مُرَّاكُشُ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ بَنَاهَا الْإِمَامُ يُوسُفُ
بْنُ تَاشَفِينَ، وَهِيَ قَاعِدَةُ بِلاَدِ الْمَغْرِبِ وَقُطْرُهَا وَمَرْكَزُهَا
وَقُطْبُهَا، فَسِيحَةُ الْأَرْجَاءِ، صَحِيحَةُ الْهَوَاءِ، بَسِيطَةُ السَّاحَةِ
وَمُسْتَطِيلَةُ الْمِسَاحَةِ، كَثِيرَةُ الْمَسَاجِدِ، عَظِيمَةُ الْمَشَاهِدِ،
جَمَعَتْ بَيْنَ عُذُوبَةِ الْمَاءِ، وَاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، وَطِيبِ التُّرْبَةِ،
وَحُسْنِ الثَّمَرَةِ، وَسِعَةِ الْحَرْثِ، وَعَظِيمِ بَرَكَتِهِ".
فأين نحن اليوم من كل هذه
الخصال المجيدة وهذا الجمال الفريد الذي قيل في هذه المدينة التاريخية الشريفة المناضلة التي أضحت مع كامل الأسف
الشديد في هذا العصر المائع كالغانية المستباحة، تُشَدُّ إليها
الرحال من كل حدب وصوب لكل من هب ودب من الحثالات وأتفه خلق الله من أجل العبث ثم العبث ثم العبث؟؟؟