ما جدوى الكلمات عندما يصبح كل شيء مزيفا؟

ما جدوى الكلمات عندما يصبح كل شيء مزيفا؟
من بين كل ما هو مكتوب لا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بدمه، اُكْتُبْ بدمك لتعلم أن الدَّمَ عَقْلٌ، وليس من السهل بالمرة أن يفهم الإنسان دَماً غريباً، إن من يعرف القارئ لن يفعل بعدها شيئا من أجله، قرن آخر من القراء وسيغدو العقل ذاته نَتِناً، أن يغدو من حق أي كان أن يتعلم القراءة، فذلك ما سَيُفْسِدُ بمرور الزمن لا الكتابة وحدها، بل حتى التفكير أيضا. 
في ما مضى كان العقل إلاها، ثم تحول إنسانا، وها هو الآن يغدو رُعَاعاً، إن من يكتب كلمات بدمه لا يريد أن تُتْلَى تلك الكلمات تلاوة روتينية، بل يريد أن تَسْتَظْهِرَهَا القلوبُ.
إن أقصر الطرق بين الجبال هو الخط المستقيم الممتد بين قمة وقمة، ولا يمكنك تتبع هذا السبيل إن لم تكن رجلاً مَارِداً، يحمل تعاليم علوية شامخةً، وأن يكون لمن تُلَقَّنُ لهم هذه التعاليم عظمة وقوة الجبابرة.
الهواء خفيف ونقي والخطر قريب، والعقل مُفْعَمٌ بِخُبْثٍ مَرِحٍ: كذا الأشياء كلها في توافق وانشجام، أريد عفاريت من حولي لأنني شجاع، إن الشجاعة التي تطرد الأشباح تختلق عفاريت لنفسها، الشجاعة تريد الضحك.
لم يعد لي من إحساس بما تحسون، وهذه السحابة التي أراها من تحتي، هذه القتامة والثقل التي أضحك منها، تلك هي سحابة غيثكم، تنظرون بأعينكم إلى الفوق وأنتم تطلبون العُلَى، أَنْظُرُ إلى الأسفل لأنني في الأعالي، الذي يصعد إلى الجبال الشواهق يضحك من كل مآسي الحياة، مسرحيات كانت أم حقيقية.
تريدنا الجكمة شجعانا لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين، لأن الحكمة أُنثى، ولا تحب الأنثى إلا الرجلَ الصلبَ المكافحَ.
تقولون لي أن الحياة عِبْءٌ ثَقِيلٌ، لكن لتكفوا عن مثل هذه الرقة، إننا جميعنا حمير وأتانات جيدة لحمل الأثقال.. نحن نحب الحياة، ليس لأننا تعودنا على الحياة، بل لأننا تعودنا على الحب، هناك دوما شيء من الجنون في الحب، لكن هناك دوما شيء من العقل في الجنون أيضا، وأنا الذي أكن مودة للحياة، أنا أيضا تتراءى لي الفراشات وفقاقيع الصابون وما هو على شاكلتها من بني البشر أكثر الكائنات دراية بالسعادة.
مليئة هي الأرض بالفائضين عن اللزوم، والحياة قد داخلها الفساد بسبب هذا الفائض من الفائضين، لنكن الحياة الخالدة طُعْماً يستدرجهم إلى الارتحال عن هذه الحياة.
لِتَمُتْ في الوقت المناسب، هكذا تكلم زرادشت.. لكن كيف يمكن لمن لم يعش في الوقت المناسب أن يموت في الوقت المناسب؟ ليته لم يولد أصلا!
عندما تراءى لي شيطاني رأيته جامدا مستغرقا ملؤه الجد والجلال، فقلت هذا هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحالات لديه.. إذا أردت القتل فلا تستعن بالغضب، بل استعن بالضحك، فهيا بنا نقتل الروح الثقيل.
لقد تعلمت المشي ومنذئذ صرت أدع نفسي تتمشى، وتعلمت الطيران ومنذئذ لم أعد أنتظر أن أُدْفَعَ كي أتحرك من موقعي، أنا الآن خفيف، الآن أطير، الآن أرى نفسي دون منزلتي، الآن يرقص إلاه من خلالي.
الدولة؟ أي شيء هو هذا؟ والآن لتمنحوني آذانا صاغية، لأنني الآن سأقول لكم كلمتي عن موت الشعوب، الدولة تعني أكثر الغيلان الفظيعة الباردة برودة، كذبا باردا يكذب هذا الغول أيضا، وَكِذْبَتُهُ تلك تخرج زاحفة من فمه صارخة: ''أنا هو الشعب''.
كل هذا كذب في كذب، فالمبدعون هم الذين أبدعوا شعوبا وبسطوا عقيدة بينها ومحبة: هكذا كانوا يخدمون الحياة.. مدمرون هم أولئك الذين يضعون فخاخا للكثيرين ويسمونها دولة: إنهم يعلقون سيفا فوق رؤوسهم وألف رغبة جشعة.
وحيثما يوجد شعب بعد فإنه لا يفهم ما الدولة ويحقد عليها مثل عين سوء وخطيئة في عين القيم والشرائع، إليكم مني هذه العلامة: كل شعب يتحدث بلسان خيره وشره الخاص: وهذا الإنسان لا يفهمه جاره، فلغته قد صاغها لنفسه في الأعراف والشرائع، لكن الدولة تكذب على كل لسان للشر والخير: وبأي كلام نطقت فهي تكذب، وكل ما في يدها إنما هو مما سرقته، كل شيء مزيف لدى الدولة، إنها تعض بأسنان مسروقة، هذه الشرسة العقور المزيفة حتى الأحشاء.
خلط وتشويش في لغة الخير والشر: هذه العلامة أعطيكم إياها كعلامة للدولة.. كثير من الفائضين عن اللزوم يأتون إلى الحياة، ولأجل هذا الفائض الكثير اِبْتُدِعَتِ الدولة، انظروا معي كيف تستدرجهم إليها، أولئك الفائصين عن اللزوم، كيف تلتف عليهم وَتَطْحُنُهُمْ بأسنانها وَتَجْتَرُّهُمْ.
دولة أسمى موضع كل الذين يكرعون من السموم، الصالحون والسيئون معا، دولة هناك حيث يُضِيعُ الجميع أنفسهم، الصالحون والسيئون معا، دولة هناك حيث الانتحار الجماعي البطيء يُدْعَى (حَيَاةً).
هناك حيث تنتهي الدولة يبدأ الإنسان الذي ليس فائضا عن اللزوم: هناك يبدأ نشيد الضرورة، والطريقة الوحيدة التي لا مثيل لها للوجود، هناك حيث تنتهي الدولة، أنظروا إلى هناك يا إخوتي ألا ترون قوس قزح وجسر الإنسان الأعلى.. هكذا تكلم زرادشت.  
المدون بتصرف عن 'هكذا تكلم زرادشت' للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق