الذكرى 935 لمعركة الزلاقة التاريخية المجيدة: 23 أكتوبر 1086م---23 أكتوبر 2021 م

الذكرى 933 لمعركة الزلاقة التاريخية المجيدة: عندما كان المغرب يدك عروش الصليبيين بأوروبا دكا
معركة الزلاقة التي وقعت يوم الجمعة 13 رمضان من عام 479 هجرية الموافق ل 23 أكتوبر 1086 ميلادية بين المسلمين بقيادة المجاهد الزاهد يوسف بن تاشفين والفرنجة تحت إمرة الملك الصليبي ألفونسو السادس، لم تكن هذه المعركة بل الملحمة الكبرى وأم المعارك عادية لكونها غيرت مجرى تاريخ المنطقة، وَمَدَّتْ في عمر الدولة الإسلامية بالأندلس لما ينيف على أربعة قرون من الزمن، وذلك بالرغم من التشويه المتعمد من طرف مؤرخي دولة الموحدين التي قامت على دماء كثيرة للمرابطين من جهة، ومن طرف مؤرخي الصليبيين الذين كانوا يكنون كرها وحقدا لا مثيل له ليوسف بن تاشفين ودولة المرابطين عامة، لأن هذا الرجل ونعم الرجال-رحمه الله-أراهم النجوم في الظهر الأحمر في تلك الملحمة، في حين كان ملوك الطوائف الضعاف المتنازعين على الكراسي والمناصب والمتهافتين على المُتع الدنيوية من جواري وغلمان  وقصور وجنان فيحاء يُمَجَّدُونَ تمجيدا أخرقا من طرف النصارى وبعض التوابع ممن يدورون في أفلاكهم من المسلمين.
ولا زالت هذه العادة المزورة للحقائق التاريخية مستمرة إلى يومنا هذا، غير أن ذلك لم يمنع من ظهور بعض القناديل المضيئة في ظلمة الليل البهيم، التي أنصفت يوسف بن تاشفين ودولة المرابطين، ووضعت كل منهما في مكانه الصحيح، يوسف بن تاشفين  كقائد فذ كبير كان يعمل أكثر مما يتكلم بصدق للإسلام والمسلمين، والمرابطون كقوة  عظمى بالمغرب الأقصى كان يُقام لها ويُقعد، وترتعد فرائص العدو والصديق معا كلما جرى بذكرها اللسان.
كانت قشتالة  ترزح تحت حكم الملك الصليبي المتجبر ألفونسو السادس، الذي انتهج سياسية فرق تسد بين ملوك الطوائف من خلال تأنيب بعضهم على البعض الآخر، وإذكاء القلاقل والأحقاد وروح الكراهية فيما بينهم، وقد وصل الجشع بهؤلاء الأمراء في حب السلطة والمال وامتلاك الحور العين إلى درجة طلب المساعدة من ملوك النصارى لدك إخوانهم المسلمين وذبحهم ذبحا، الشيء الذي كان سببا مباشرا في اندحار المدن والقلاع الإسلامية بالأندلس الواحدة تلو الأخرى أمام جبروت وطغيان ألفونسو السادس.
حتى جاء الدور أخيرا على أمير إشبيلية المعتمد بن عباد بدعوى تأخره في دفع الجزية لألفونسو السادس، مما حدا بهذا الأخير إلى بعث رسول له للمعتمد قصد التنبيه، فحدثت مشادة كلامية بين الرجلين فقد على إثرها المعتمد بن عباد أعصابه، فقام على إثر ذلك مجموعة من العبيد انتقاما لكرامة سيدهم التي أُهِينت ومُرِّغَتْ في الوحل بقتل جميع مرافقي رسول ألفونسو السادس. 
وعندما أدرك المعتمد بن عباد هولَ الـجُرْمِ الـمُرْتَكَبِ والـمُصِيبَةِ التي حلت به، وأصبح متيقنا أنه لم يعد لديه سوى خياران أحلاهما مر، إما الخضوع والطاعة والانصياع لملك الفرنجة الصليبي ألفونسو السادس، وإما الاستنجاد بأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، الرجل التقي الزاهد في الدنيا، الذي لم تمنعه سنوات عمره الثانية والسبعون من امتطاء صهوة جواده وحمل سيفه وتقدمه الصفوف الأمامية للمقاتلين الأشداء، وبالرغم من التحذير الذي أبان عنه مستشارو المعتمد بن عباد بالعدول عن طلب المساعدة من يوسف بن تاشفين، لأن في ذلك حسب ادعائهم نوع من الانتحار السياسي أمام رجل متدين صلب ومتمرس على الحروب، وذو بأس شديد مقارنة بملوك الطوائف المخنثين الغارقين حتى النخاع في البذخ والترف والملاهي والملذات.
وكان الرشيد الإبن الأكبر للمعتمد في طليعة المعارضين للاستنجاد بالمرابطين عندما قال مخاطبا أباه:"أَتُدخِلُ عَلَيْنَا يَا أَبَتِ مَنْ يَسْلُبُنَا مُلْكَنَا وَيُبَدِّدُ شَمْلَنَا فِي أَنْدَلُسِنَا؟"، فرد عليه المعتمد بن عباد: "أَيْ بُنَيَّ، أَنَا فِي هَذَا الأَنْدَلُسِ غَرِيبٌ بَيْنَ بَحْرٍ مُظْلِمٍ وَعَدُوٍّ مُجْرِمٍ، وَلَيْسَ لَنَا وَلِيٌّ وَلاَ نَاصِرٌ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى، فَهَا هُوَ أَلْفُونْسُو قَدْ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْنَا، فَإِنْ نَزَلَ عَلَيْنَا كَمَا نَزَلَ بِطُلَيْطِلَةَ يَقْتُلُنَا، أَوْ يَجْعَلُنَا رُعَاةً لِخَنَازِيرِهِ، وَأَنْتَ يَا وَلَدِي تَخْشَى أَنْ يَسْلُبَنِي ابْنُ تَاشَفِينَ مُلْكِي، وَإِنِي لَأَسْأَلُكَ بِاللهِ، فَأَيُّهُمَا أَشْرَفُ لِأَبِيكَ، أَنْ يَرْعَى الخَنَازِيرَ فِي قَشْتَالَةَ أَوْ يَرْعَى الِإبِلَ لِابْنِ تَاشَفِينَ فِي مُرَّاكُشَ؟".
وبهذا الجواب الصادح يكون المعتمد بن عباد قد حسم الأمر بالاستنجاد بيوسف بن تاشفين، الذي لم يتردد لحظة واحدة في الاستجابة للنداء، ولا غرو أن يصدر ذلك عن رجل يعتبر نموذجا يـُحتدى ويُقتدى به للحاكم المسلم الحازم العادل التقي، الذي اعتبر عدم الاستجابة لأخ يستنجد به نوعا من الخيانة.
دخل يوسف بن تاشفين أراضي أوروبا على رأس خمسة عشر ألف مجاهد، وما إن علم ألفونسو السادس بالخبر حتى أرسل إليه رسالة تهكمية مبطنة بالتهديد والوعيد يقول فيها:" سَمِعْتُ أَيُّهَا البَدَوِيُّ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ شَيْئاً عَنْ قِتَالِ صَنَادِيدِ قَشْتَالَةَ أَنَّكَ تَنْوِي السَّيْرَ إِلَيْنَا، فَرَأَيْنَا أَنْ نَكْفِيكَ الْعِنَادَ وَلَا نُكَلِّفَكَ التَّعَبَ، فَأَنَا قَادِمٌ إِلَيْكَ حَيْثُمَا كُنْتَ رِفْقاً بِكَ وَتَوْفِيراً عَلَيْكَ، وَسَوْفَ تَرَى حِينَ تُوَاجِهُ جُيُوشِي، هَذَا إِنْ لَمْ تَفِرّْ بِمَنْ مَعَكَ قَبْلَ اللِّقَاءِ، إِنَّ مَعِي مِنَ الرِّجَالِ مَنْ أَسْتَطِيعَ أَنْ أَهْزِمَ بِهِ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، فَمَاذَا تَكُونُ أَنْتَ أَمَامِي أَيُّهَا الْبَدَوِيُّ الصَّحْرَاوِيُّ"، فلما توصل يوسف بن تاشفين بالخطاب قال لمن حوله: "هَذَا خِطَابٌ طَوِيلٌ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ عَقْلٍ، اُكْتُبُوا رَدِّي عَلَيْهِ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِهِ"، ولم يزيد الرد على ثلاث كلمات:"الَّذِي يَكُونُ سَتَرَاهُ" حتى صار مثالا متداولا جاريا على الألسن لإيجازه وبلاغته، فما إن وصل جواب ابن تاشفين إلى ألفونسو حتى دبت في قلبه الرهبة وانتابه الرعب، فاستنجد بجميع ولاة الأقاليم مستخدما نفوذ بابا الكنيسة في روما للحث على الجهاد النصراني المقدس ضذ الكفار (أي المسلمين) كما يَدَّعُونَ.  
إبان ذلك، انضم إلى جيش يوسف بن تاشفين القادم من المغرب الأقصى  عشرة آلاف مجاهد من الموريسكيين القادمين من مدن ألميريا، بطليوس، إشبيلية وغرناطة، ثم اتجهوا شمالا لملاقاة الملك الصليبي ألفونسو الذي كان يقود جيشا جرارا أغلبه من النصارى  قوامه مائة ألف مقاتل، وكان من المفترض كما اتفق عليه الطرفان أن تدور المعركة يوم السبت لأن يوم الجمعة هو عيد للمسلمين ويوم الأحد هو عيد للمسيحيين،  غير أن النصارى نقضوا الاتفاق كما هي عاداتهم منذ القدم وإلى زماننا هذا، واستخدموا سلاح المفاجئة وهجموا على المسلمين غدراً في وقت صلاة الجمعة التي أُقيمت-لحدس وفطنة القائد يوسف بن تاشفين-كصلاة خوف كانوا خلالها على أهبة الاستعداد في حالة فُرِضَ عليهم فيها القتال.
في بداية المعركة التحمت جيوش الصليبي ألفونسو بجيش المسلمين الذي كان على  رأسه المعتمد بن عباد في المكان الذي أُطلق عليه 'الزلاقة' لكثرة ما سقط فيه من جثت وما سالت فيه من دماء لدرجة أضحت معها الأرض زلقة، بينما بقي جيش يوسف بن تاشفين متواريا عن الأنظار خلف خطوط المعركة ينتظر إشارة القائد، ولتفوق المسيحيين عدة وعتادا بنسبة عشرة لواحد ظن النصارى أن المعركة تميل لصالحهم، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من النصر، والحق يُقال أنه بالرغم من الجروح التي أُصيب بها المعتمد بن عباد فقد أبان عن شجاعة وجلد وقوة تحمل، واستطاع أن يُبقي على جيش المسلمين صامدا متماسكا حتى وصل جيش يوسف بن تاشفين، الذي استطاع أن يُفْقِدَ النصارى بوصلتهم وتماسكهم ويبددهم تبديدا كما تبدد الريح أشجار أوراق يابسة في يوم ريح صرصار عاصفة، مُلحقا بهم هزيمة مدوية نكراء، فر على إثرها جريحا مهانا كالفأر ألفونسو السادس مع حفنة ضئيلة مما تبقى من مقاتليه.
لهذا تعتبر معركة الزلاقة من أنصع صفحات المعارك في التاريخ الإسلامي، قادها فارس مغربي عظيم ذو بأس شديد، عاش زهاء مائة عام، قضى منها في الزعامة والكفاح زهاء نصف قرن، وقضى في حكم الدولة المرابطية الكبرى بالمغرب نحو أربعين عاماً، وحكم الإمبراطورية المغربية الأندلسية الكبرى نحو خمسة عشر عاماً، واضطلع في المغرب بحروب ومعارك لا حصر لها، وقاد الجيوش المرابطية بالأندلس مراراً من أجل أن ترتفع راية المسلمين خفاقة في الأعالي بين الأمم، وليس من أجل المغانم والقصور والأموال والجواري، لأنه كان بطبعه زاهدا في الدنيا معتادا على حياة الصحراء البسيطة المتقشفة، حتى أحرز أعظم انتصاراته في معركة الزلاّقة التاريخية العظمى الحاسمة، وهي بلا ريب من ألمع صفحات الجهاد وأنصعها في التاريخ المغربي والعربي والإسلامي على الإطلاق.
وقد تجلت صدق نية يوسف بن تاشفين وصفاء طويته وصلاح بطانته في الحضور القوي على المقدّمة في كافّة الميادين للعلماء حصون الأمة وقادتها ومثالها وقدوتها، وهو ما يؤكده استشهاد عدد من العلماء الفضلاء كابن رميلة صاحب البُشْرَى، والعالم أبو مروان عبد الملك المصمودي قاضي مرّاكش، والفقيه أبو رافع الفضل ولد الـحافظ العالم العلامة الأندلسي الفقيه الأديب أبي محمد بن حزم الأندلسي، وغيرهم كثير من صفوة وخيرة علماء وصلحاء الأمة المغربية، غير منزوين عن الأحداث الجسام التي كابدتها الأمة أو ساعين فقط  لأجل الظفر بمناصب وألقاب ومغانم من حطام الدنيا كما يتوضح بجلاء في واقعنا المتردي والمتداعي على جميع الأصعدة اليوم. 
لقد دخلت معركة الزلاقة التاريخ من بابه الواسع ليس لكونها معركة  تاريخية كبرى فاصلة  مدت في عمر الدولة الإسلامية بالأندلس أربعة قرون من الزمن، بل لأنها أضحت درسا بليغا وعبرة لجميع المسلمين في كل زمان ومكان على أهمية وحدتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية في سبيل أن ينتزعوا لهم موقعَ قدمٍ تحت الشمس بعزة وكرامة بين أمم العالم العظمى، ولن يتأتى لهم ذلك أبدا ما داموا متفرقين متخاصمين متنازعين بل حتى متقاتلين، وذلك مصداقا لقوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَسورة الأنفال-الآية 46.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق