"من المؤسف جداً أن جميع الأشخاص الذين يعلمون كيف
يمكن إدارة البلد مشغولون بقيادة سيارات الأجرة والحلاقة"
الممثل الأمريكي جورج برنز (1896-1996)
إن أول شيء يحصل عليه أي موظف جديد عند التحاقه بإحدى الإدارات هو سروال ذو حزام واسع جدا (تكليفه بإنجاز مهمات أكبر من حجمه في غياب أية تجربة مُسبقة) لتوريطه وابتزازه فيما بعد للتحكم فيه بكل سهولة ويسر، وهذا ما يستلزم على القادم الجديد إلى دواليب ونواعر الإدارة أن يشد على حزام السروال بكلتا يديه حتى لا يسقط وتنكشف عورته، إلا أن الإدارة تتعمد توجيه ضربات مسترسلة قوية ومركزة على وجهه حتى يستسلم وتنكشف عورته لتفعل به بعد ذلك ما تشاء، ولكن هذه الإدارة بالذات جبانة، فأحيانا تصادف أقلية قليلة من المحاربين الذين لا يتنازلون، ويستمرون بالشد على أحزمة سراويلهم الواسعة في جميع الظروف والأحوال، واكتناز والصمود لكل أنواع الضربات مهما قست واشتدت دون أن يستسلموا، وعندما تيأس الإدارة من هزيمتهم تلجأ إلى أسلوب خسيس ودنيء للانتقام منهم وهو اللجوء إلى ارتكاب شتى أنواع الحيف والظلم في التنقيط والترقي وتقلد مناصب (المسؤولية).
وفي جميع الأحوال فإن الموظف الذي يعمل، وهو على كل حال ظاهرة فريدة، غالبا ما يقوم بذلك على إيقاع بطيء ومتقطع يدعو إلى التثاؤب والانخراط في النوم والشخير في تناسبية مع ما يتلقاه من أجر بائس هزيل، وتحفيز رسمي وشبه رسمي وخفي من تحت الطاولة للمقربين والـمُرضَى عنهم، وفي كل الظروف يبقى الموظف عَبْداً مُسْتَعْبَداً ذليلا حقيرا مُسَخَّراً يقضي معظم حياته في الأكل والنوم والعمل كالبهيمة المعلفة التي يكون مصيرها الذبح والسلخ والشواء، لدرجة أن أيامه المتتابعة والمتشابهة تبدو له طويلة ومملة، وتدفعه لاختراع أدوات مبتكرة وفعالة لقتل الوقت وصلبه صلبا دمويا على عقارب ساعة الإدارة المعطلة التي تمرح في مينائها العناكب.
ومن الصعب إقناع موظف بأنه ارتكب خطأ لأنه تعود على ارتكاب الأخطاء بالجملة منذ فجر التاريخ في جميع أرجاء المعمور، لدرجة أنها أضحت لديه عادات متأصلة وراسخة، فهو لا يفي بوعد، ولا يوافق قوله عمله، ولا يحترم الإجراءات والقوانين إلا عندما يكون رأسه تحت تهديد فصله بالمقصلة، ومن غير المستحب إزعاجه عندما يكون منهمكا في قراءة جريدته المفضلة، لأن دماغه بالكاد وبصعوبة كبرى يستوعب ما يقرأه، وهو مصاب بآفة المشي في نومه في عز النهار، فإياك ثم إياك أن توقظه أثناء ذلك لأنها ستكون الكارثة، ويُنصح بعدم معارضته في أفكاره المسبقة لأنه سرعان ما يُصبح متصلبا وعدوانيا لدرجة الجنون.
وبالرغم من كل ذلك فهو يبقى إنسانا وليس حيوانا، لأنه لو كان حيوانا لتم افتراسه افتراسا وحشيا منذ زمن طويل من قبل زملائه الأكثر إخلاصا وصداقة له في العمل، فإن حَدَثَ يوما ما وتلاقت عيناك بعينيه وأحسست بنظرته الغبية البلهاء تخترقك، فإنه لا يفتعل ذلك عمدا من أجل استفزازك، ولكن تلك عادته التي تربى عليها منذ الأزل.
والشيء المقدس لدى الموظف هو وقت الاستراحة الذي هو بمثابة الأفيون عند الحشاشين، كلما ازدادت جرعته تصاعدت نشوته حتى يُضحي إدمانا لا يمكن التخلي عنه بأي شكل من الأشكال، وخلال هذه الاستراحة يتجلى نشاطه الهائل، بحيث يُعالج كَمّاً هائلا من الملفات والحالات المستعجلة والمستعصية في ظرف زمني وجيز: مثل الخروج في مهام خاصة لاصطياد بعض الطرائد السمينة من دون أن يطلق ولو رصاصة واحدة.
فإن تعذر عليه القيام بذلك لأسباب إدارية مخابراتية ظل طوال نهاره يمشي ذهابا وإيابا، مرة ذاهبا للتبول، وأخرى لغسل يديه، وتارة أخرى لفتح جدال عقيم بدون نهاية مع أي كان في مواضيع شتى، يُصبح فيها محللا سياسيا، وخبيرا اقتصاديا، ومصلحا اجتماعيا، ومهندسا معماريا، وطبيبا نفسيا، ومشرعا قانونيا، ومفتيا دينيا، وفي الأخير معارضا حاقدا ومنتقدا للحكام والحكومات على طول ساعات العمل، وضعف دخله، ونسيان ترقيته، وفوق ذلك تكليفه من طرف الإدارة لتمثيلها للقيام بمهمات خارج إطار اختصاصه لسد ثقوب الأشغال القذرة بواسطته.
وعندما يكون الموظف في عطالة عما يسمى بالعمل ينتقل إلى أجواء شرب القهوة والشاي والتهام ساندويتش وحلويات، من دون نسيان المرور بطبيعة المهنة على مكاتب الموظفات المترهلات المسترخيات لتشنيف أسماعهن بما يحببن سماعه من مواضيع شبقية متلبسة بالضحك كما تلبس الحلويات بالشكولاتة، تفتح أقواسا ملونة بقوس قزح في انتظار إغلاقها في الظلام بأقواس من فحم.... نقطة إلى السطر.
والشيء المقدس لدى الموظف هو وقت الاستراحة الذي هو بمثابة الأفيون عند الحشاشين، كلما ازدادت جرعته تصاعدت نشوته حتى يُضحي إدمانا لا يمكن التخلي عنه بأي شكل من الأشكال، وخلال هذه الاستراحة يتجلى نشاطه الهائل، بحيث يُعالج كَمّاً هائلا من الملفات والحالات المستعجلة والمستعصية في ظرف زمني وجيز: مثل الخروج في مهام خاصة لاصطياد بعض الطرائد السمينة من دون أن يطلق ولو رصاصة واحدة.
فإن تعذر عليه القيام بذلك لأسباب إدارية مخابراتية ظل طوال نهاره يمشي ذهابا وإيابا، مرة ذاهبا للتبول، وأخرى لغسل يديه، وتارة أخرى لفتح جدال عقيم بدون نهاية مع أي كان في مواضيع شتى، يُصبح فيها محللا سياسيا، وخبيرا اقتصاديا، ومصلحا اجتماعيا، ومهندسا معماريا، وطبيبا نفسيا، ومشرعا قانونيا، ومفتيا دينيا، وفي الأخير معارضا حاقدا ومنتقدا للحكام والحكومات على طول ساعات العمل، وضعف دخله، ونسيان ترقيته، وفوق ذلك تكليفه من طرف الإدارة لتمثيلها للقيام بمهمات خارج إطار اختصاصه لسد ثقوب الأشغال القذرة بواسطته.
وعندما يكون الموظف في عطالة عما يسمى بالعمل ينتقل إلى أجواء شرب القهوة والشاي والتهام ساندويتش وحلويات، من دون نسيان المرور بطبيعة المهنة على مكاتب الموظفات المترهلات المسترخيات لتشنيف أسماعهن بما يحببن سماعه من مواضيع شبقية متلبسة بالضحك كما تلبس الحلويات بالشكولاتة، تفتح أقواسا ملونة بقوس قزح في انتظار إغلاقها في الظلام بأقواس من فحم.... نقطة إلى السطر.
ثم يعود إلى مكتبه خائر القوى يجر رجليه من كثرة الضنى والعمل، لدرجة أنه عندما يعود بعد الظهيرة لا يعود يدري ماذا يفعل، وهكذا دواليك يظل يلوك أيامه في انتظار عطلة رسمية، أو رخصة مرضية، أو رخصة سنوية، أو أي كارثة تضرب العالمين والناس أجمعين، وتخلصه هو وحده ولو مؤقتا من الحضور إلى ضنكه وعذابه اليومي وسجنه الأبدي وحياته البائسة.
أما فيما يخص الموظف المثالي الأنيق صاحب رابطة العنق والنظارات الطبية الذي يتقمص دو الذكي والحذق، فهو الذي يتم تنقيطه وترقيته ليس حسب كفاءته ومردوديته وفعاليته وإخلاصه في العمل، وإنما حسب لحسه لأحذية من يسمون ب(المسؤولين)، الذين ليس باستطاعتهم تحمل مسؤولية حتى قطيع صغير من الخرفان، وحسب إنتاجيته للأطنان المكدسة من الوثائق والتقارير والدراسات المغلوطة والمفبركة التي ينتهي بها المطاف في مكب النفايات بمجرد تفرق القوم بعد التدشين.
وكلما كان الموظف متحمسا ونشطا في مسايرة ومدح الوضع القائم، وتلميع المشاريع المنزلة تنزيلا من أصحاب الحل والعقد، وإخراج ذلك إخراجا منمقا مزركشا بالألوان بالطول المتري الورقي على الشاشات البلازمية المسطحة للحواسيب ذات السبعة وثمانية قلوب، إلا وصعد السلاليم بسرعة البرق حتى سقف الإدارة، ولا يبرح كرسيه العاجي هذا إلا عندما يُحال على المعاش، لكن للأسف أن هذا السقف بالضبط هو الذي يسقط مباشرة بعد ذلك فوق رأسه ليسحقه ويؤدي إلى هلاكه، وحمله بسرعة فائقة لردمه في إحدى الحفر بالمقابر، ونسيانه إلى الأبد من طرف أسياد نعمته كأنه لم يكن في يوم من الأيام أحدا.
وكلما كان الموظف متحمسا ونشطا في مسايرة ومدح الوضع القائم، وتلميع المشاريع المنزلة تنزيلا من أصحاب الحل والعقد، وإخراج ذلك إخراجا منمقا مزركشا بالألوان بالطول المتري الورقي على الشاشات البلازمية المسطحة للحواسيب ذات السبعة وثمانية قلوب، إلا وصعد السلاليم بسرعة البرق حتى سقف الإدارة، ولا يبرح كرسيه العاجي هذا إلا عندما يُحال على المعاش، لكن للأسف أن هذا السقف بالضبط هو الذي يسقط مباشرة بعد ذلك فوق رأسه ليسحقه ويؤدي إلى هلاكه، وحمله بسرعة فائقة لردمه في إحدى الحفر بالمقابر، ونسيانه إلى الأبد من طرف أسياد نعمته كأنه لم يكن في يوم من الأيام أحدا.
وبالرغم مما سلف ذكره بشأن الموظف، فهذا لا يعني أن الشعوب بريئة وطاهرة ومنزهة ترفرف بأجنحة الملائكة، بل هي الأخرى لا تخلو من عورات صارخة، وعيوب فاضحة، لأن فيها من الجهلة والرعاع والأوباش والمنافقين وأولاد الحرام وما إلى ذلك من النماذج الشاذة والمتطرفة ما سوف تظهر فيه طوابير الموظفين كقطرة ماء في بحر لجاج متلاطم الأمواج.
وخلاصة القول: " حتى زين ما خطاتو لولة"، ومن أراد الإصلاح فعليه أن يبدأ بإصلاح نفسه أولا وقبل كل شيء، وليس بإعطاء المواعيظ والدروس من خلال التلفزيون ابتغاء إصلاح المجتمع متناسيا نفسه....وخلاصة القول اللهم افضح العيوب لينكشف الفساد ويسقط الفاسدون المفسدون.. وليس كما يقول البعض "الله يستر العيب" وهو لا شك مخطِأٌ في ذلك..
هوامش:
'حَتَّى زِينْ مَا خْطَاتُو لُولَة' هو مثل شعبي مغربي يُقصد به بأن لا أحدَ مُنَزَّهٌ عن العُيُوبِ..وعلى أية حال الكمال لله وحده.
وخلاصة القول: " حتى زين ما خطاتو لولة"، ومن أراد الإصلاح فعليه أن يبدأ بإصلاح نفسه أولا وقبل كل شيء، وليس بإعطاء المواعيظ والدروس من خلال التلفزيون ابتغاء إصلاح المجتمع متناسيا نفسه....وخلاصة القول اللهم افضح العيوب لينكشف الفساد ويسقط الفاسدون المفسدون.. وليس كما يقول البعض "الله يستر العيب" وهو لا شك مخطِأٌ في ذلك..
هوامش:
'حَتَّى زِينْ مَا خْطَاتُو لُولَة' هو مثل شعبي مغربي يُقصد به بأن لا أحدَ مُنَزَّهٌ عن العُيُوبِ..وعلى أية حال الكمال لله وحده.