(الحضارة) المعاصرة تهوي سريعا في منحدر خطير باتجاه الانهيار الأخير

" لا توجد دولة يمكن أن تعيش إلى الأبد، وجميع الدول التي اختفت كانت معظمها بسبب الفساد الداخلي"
                                                                   المؤرخ والكاتب الأمريكي 'روسل كيرك' (1918-1994)
الحضارة المعاصرة في منحذر خطير باتجاه الانهيار الأخير
حدثنا ذات يوم من أيام الله السالفة بينجامين دزرائيلي (1804-1881) أحد كبار الساسة البريطانيين عن حزب المحافظين، والذي تولى رئاسة الوزراء البريطانية من 1874 حتى 1880 فقال: "إن المجتمع يعتقد أن الحضارة هي الراحة"، أما في عصرنا هذا فيعتقد معظم الناس بأن الحضارة هي السرعة، والسرعة هي الإلاه المعبود لإنسان العصر الحالي المهووس لدرجة الجنون بخردة التكنولوجيا، التي صار لها عبدا مُشَرَّطَ الأحناك، وأصبح يضحي من أجلها عن طيب خاطر بصحته وهدوئه، وراحته وسكينته، وسلامه الداخلي مع نفسه، مما يفسر مظاهر القسوة من غير رحمة ولا شفقة التي عمت الدنيا بأسرها منذ مطلع الألفية الثالثة، الشيء الذي فسره الكثير من العلماء حول العالم بقرب زوال (الحضارة) الحالية نظرا لانهيار القيم الأخلاقية التي تُعتبر بمثابة العمود الفقري لأية حضارة.
ويَعْتَبِرُ الطبيب الجراح وعالم الاجتماع الفرنسي ألكسيس كاريل (1873-1944) في كتابه الرائع 'الإنسان ذلك المجهول'-والذي لو عاش حتى يومنا هذا لنتف شعر رأسه من هول ما كان سيرى- على أن (الحضارة) المعاصرة لا تستطيع أن تُنْتِجَ رجالا يملكون الابتكار والذكاء والجرأة، وفي كل قطر تقريبا يرى الإنسان في الطبقة التي تُباشر إدارة الأمور وتملك زمام البلاد انحطاطا في الاستعداد الفكري والخلقي، إننا نلاحظ أن (الحضارة) المعاصرة لم تخفق في الآمال الكبيرة التي عقدتها عليها الإنسانية، وإنما أخفقت في تنشئة الرجال الذين يملكون الذكاء والإقدام الذي يسير بالحضارة على الشارع الخطر الذي تتعثر عليه، إن الأفراد والإنسانية لم تتقدم بتلك السرعة التي تقدمت بها المؤسسات التي نبعت من عقولها، إنها نقائص القادة السياسيين الفكرية والخلقية، وجهلهم الذي يعرض أمم العالم للخطر...وفي المدينة العصرية قلما نشاهد أفرادا يَتَّبِعُونَ مثلا أخلاقياً، مع أن جمال الأخلاق يفوق العلم والفن من حيث إنه أساس الحضارة...كما أن هذه المدينة هبطت بمستوى ذكاء الشعب، بدليل وجود هذا العدد الكبير من المجانين بيننا.
والأيديولوجية الغربية القائمة على النفعية والمصلحة لا تُعير للقيم الأخلاقية أدنى اهتمام، وهو ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير بقوله: "كي يكون البلد صالحا لا بد أن يكون له دين...أريد من زوجتي وخياطي ومحاميَّ أن يؤمنوا بالله، وبذلك يقل غشهم وسرقاتهم لي، وإذا كان لا وجود لله فيجب علينا أن نخترع إلاها". 
لقد انهارت (الحضارة) الغربية بشقيها الرأسمالي والشيوعي لما انكشف زيفها، وماديتها المفرطة، وخواؤها الروحي، ووصولها إلى آخر الطريق، لعجزها عن تقديم الحلول الحقيقية لهدف الإنسان من هذه الحياة، ومن تم زجت به في الشقاء والتمزق الداخلي والتوثر العصبي والفزع والفراغ القاتل، وللتغطية على إخفاقها الشديد قدمت له حلولا مأساوية مسمومة في الموضة والكحول والمخدرات والمهلوسات والهوس الجنسي والشذوذ الجنسي في حلل تكنولوجية تسر الناظرين، وفي آخر المطاف قدمت له الانتحار حينما لا تشفع كل هذه المهدئات لوضع حد لحياة هذا الإنسان البئيس الغارق في التعاسة.
وتم تدجين الشعوب على المستوى العالمي من طرف القوة الخفية التي تتحكم بزمام الأمور عن طريق سموم المخدرات الصلبة كالكوكايين والهيرويين والأقراص المهلوسة وتسونامي من الجنس والعبث اللامحدود، وتم تحويل مجتمعات برمتها إلى أسواق استهلاكية تقترب من البهيمية الأشد انحطاطا، وإلى طاقة سلبية تخريبية وتدميرية جد خطيرة لكل ما يحيط بها من الكائنات الأخرى، وأضحت هذه المجتمعات المستلبة منغمسة حتى أخمص أذنيها في الفسق والمجون والزلات الخلقية والسقطات الفظيعة، ولم يعد يردعها دين أو رقابة أو سلطة قانون.
وأينما وليت وجهي لم أعد أرى سوى مجتمعات أنانية حتى النخاع، لا يسود فيه إلا رنين النهود والنقود كما قال عالم الاجتماع العراقي علي الوردي... مجتمعات متقطعة الأوصال تتكسر على صخورها الصلدة أواصر القرابة وروابط الدم، وتغرق وتتلاشى في يمها المظلم العميق روح التكافل الاجتماعي، وتشيع بين أفرادها المرضى الأنانيين حمى الشراء والنهم الاستهلاكي، والاستهلاك الترفي المرادف للإسراف والتبذير، بقصد التباهي والتفاخر وحب الظهور، أو قصد إخفاء نقائص اجتماعية معيبة.
لقد أدت العولمة إلى ارتكاب الخطايا التي حذر منها المهاتما غاندي: "سياسة بلا مبادئ، وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير، وعبادة بلا تضحية"، مما كان السبب الرئيسي  في هيمنة الدول الغربية المستكبرة وفرض نمط حياتها وفكرها  في الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك على الآخر المستضعف، مما أحدث اختراقا كاملا لكل شعوب العالم، غير أن المتضرر الأكبر تبقى هي الشعوب الفقيرة والمتخلفة والهشة الحصانة التي تفاقمت تبعيتها الفكرية والإبداعية والتكنولوجية من المعمار حتى النقد الأدبي، ومن مناهج التربية حتى تطوير البرامج التعليمية والترفيهية.
 وبدأت هذه الشعوب المستضعفة تحت الضربات المركزة المتتالية تفقد هويتها وذاتها وأصالتها، ولم تعد تفهم نفسها إلا من خلال التقليد الغبي الأعمى لسلوكيات وأنماط حياة الدول المستكبرة، فأضحت تبعا لذلك أسواقا استهلاكية من الدرجة الممتازة كالغانية الـمُستباحة، وأضحت فضاء واسعا للمغامرات التي لا تخطر على بال وحقلا للتجارب لتفريغ حماقات وكبت وشذوذ أصحاب الأموال والنخب التي تتحكم بناصية هذا العالم المتداعي بسرعة فائقة يوما بعد يوم.
يقول المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون (1737-1794) في مؤلفه القيم 'اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها' الذي يعد من أهم وأعظم المراجع في هذا الصدد: "إن أهم أسباب انهيار (الحضارة) الرومانية هي: 
ü       حب الغنى والسعي نحو الترف بأي وسيلة كانت، 
ü       اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وانتحار العدالة الاجتماعية على أبواب الديمقراطية الغربية المنافقة، 
ü       انتشار هاجس الجنس المرضي الذي أصبح أول عبادة عند البشر، 
ü       ازدياد رغبات الناس في الحصول على المساعدات المالية الحكومية والعيش عالة على نفقة الدولة.
وقد أبدى المؤلف والباحث الأمريكي المعاصر جيم نيلسون بلاك أسبابا مماثلة اعتبرها رئيسية في انهيار الأمم وهي: 
ü       انتشار الفوضى في المجتمع، 
ü       فقدان الانضباط الاقتصادي نتيجة ارتفاع الديون، وغرق الدول حتى الأذنين في مستنقعها، بحيث أضحت عاجزة عن الوفاء بها، 
ü       تضخم البيروقراطية التي لا تقيم وزنا لحقوق المستضعفين، 
ü       تدهور وتدني خطير في مستوى التعليم على كل الأصعدة والمستويات،  
ü       فتور في المعتقدات الدينية وخروج الناس من الدين أفواجا، 
ü       صعود نجم المادية الإلحادية وتهافت البشر عليها خاصة منهم الشباب التائه عن القبلة، 
ü       انتشار الفسق والفجور بشكل مهول عن طريق المواد الإباحية، والشذوذ الجنسي، والجنس خارج إطار الزواج التقلدي،
ü       انخفاض قيمة الإنسان من خلال انتشار الإجهاض بدون كوابح ولا فرامل، حتى أصبح الرضع يعثر عليهم الناس صدفة موتى في حاويات الأزبال،
ü       انتشار القتل الرحيم لتخليص الناس -الذين سئموا الحياة- من بؤسهم اليومي،
ü       ارتفاع عدد الجرائم البشعة والمروعة التي تقشعر لها الأبدان بشكل صاروخي ومهول، 
ü       انعدام احترام الشعوب للحكومات والقيم الأخلاقية والمؤسسات التقليدية.
ويبدو أن كل هذه العناصر السالفة الذكر متوفرة حاليا في (الحضارة) المعاصرة التي تهوي سريعا في منحدر خطير باتجاه الانهيار الأخير، وذلك بالرغم من كل هذا التقدم التكنولوجي الخادع الذي يملأ البر والبحر والسماء، والقضية لم تعد سوى مسألة وقت ليس إلا.