نهر معطاء ينساب انسيابا رمانسيا سحريا بلا انقطاع،
رقراقا صافيا بدون شوائب ولا ملوثات ولا صبائغ ولا تزويق ولا تنميق، يبعث الحياة
والدفئ والحب الإنساني على ضفافه الخضراء الغناء، ويوقظ الناس النائمين على جنباته من
سباتهم العميق، للتخلص والانعتاق من الذل والأغلال والقيود والعبودية التي كَبَّلَتْ بها الكهنوتية
والأرستقراطية والأوليغارشية والإقطاعية والرأسمالية المتوحشة المجتمع البشري، وسلبته كل شيء حتى قال في ذلك قولته المدوية الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "لم يترك الأغنياء للفقراء شيئا سوى الله".
إنه الفيلسوف الأديب الملهم جبران خليل جبران، صاحب
الروائع الخالدة والدرر الثمينة، والأسلوب المبتكر، بمثله العليا وقيمه السامية
الداعية إلى الكرامة البشرية والتحرر والمجد والسؤدد، بصراحته المؤلمة، وجرأته
الكبيرة في توصيف الأمراض السياسية والاجتماعية والكهنوتية التي تنخر أجساد المجتمعات
الشرقية المريضة المتداعية، كي يُزيل عن أعين الناس غشاوة الجهل والتجهيل، ويخلصهم
من الطغيان والظلم والاستبداد والتقاليد البالية والعادات السمجة السخيفة.
كتابات جبران خليل جبران فريدة من نوعها برومانسيتها
الخالصة وخيالها المحلق، هي عبارة عن لوحات فنية سامية تمزج بين فن الأدب وفلسفة
الحياة لفنان عالق بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر وبين الحياة والموت، كتابات تبدو
غريبة عن الناس في فكرها وفلسفتها، لكنها فريدة ومتميزة عن أي أدب آخر بأسلوبها، بفنيتها
الفائقة، بسحرها البياني البديع، بعذوبة تعابيرها، بعاطفتها الرقيقة الجياشة، بقوتها
البلاغية الإنشائية، بفصاحتها المبتكرة المتينة التركيب، وبفكرها الفلسفي العميق الذي
يُشَرِّحُ تشريحاً طبيعة النفس البشرية المتناقضة، في قوتها وضعفها، في فجورها وتقواها، في رحمتها وقسوتها، في صلاحها وفسادها، ويتجلى ذلك بشكل
واضح في جميع مؤلفاته ابتداء من الأجنحة المتكسرة، الأرواح المتمردة، عرائس
المروج، دمعة وابتسامة، العواصف، المواكب، البدائع والطرائف، النبي، يسوع بن
الإنسان، المجنون، رمل وزبد وانتهاء بآلهة الأرض، وخلاصة القول أن جبران خليل
جبران هو روح فريدة غريبة لكنها متسقة مع نفسها.
وإنه لمن دواعي إعجابي بهذا الأديب الفيلسوف الفريد-الذي
كان رفيقي منذ كنت تلميذا في الصف الابتدائي أيام الجد والنشاط إلى غاية أيامنا الشمطاء
هذه-أن أقتبس من أدبه وفلسفته البعض من الشذرات التي تزكي ما سلف، والتي اخترتها بكل
عناية من أروع مؤلفاته، ألا وهو مؤلف 'العواصف'، حيث تسمو بنا في الأعالي على بساط
أفكاره الثائره المتمردة :
أيها الليل أنت ظلام يُرينا أنوار السماء والنهار نوراً
يغمرنا بظلمة الأرض، أنت أملٌ يفتح بصائرنا أمام هَيْبَةِ اللاَّنهائية، والنهار
غرورٌ يوقفنا كالعُميان في عالم المقاييس والكمية، في ظلالك تدب عواطف الشعراء،
وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء، وبين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين، فأنت
ملقن الشعراء والموحي إلى الأنبياء والموعز إلى المفكرين والمتأملين، أنا ليل
مسترسل منبسط هادئ مضطرب وليس لظلمتي بدء وليس لأعماقي نهاية، فإذا ما انتصبت الأرواح
متباهية بنور أفراحها تتعالى روحي متجمدة بظلام كآبتها، أنا مثلك أيها الليل ولن
يأتي صباحي حتى ينتهي أجلي.
أما إسم المرأة التي أحبها قلبي فهو الحياة، فالحياة امرأة ساحرة حسناء
تستهوي قلوبنا، وتستغوي أرواحنا، وتَغْمُرُ وجداننا بالوعود، فإن أَمْطَلَتْ أماتت
فينا الصبر، وإن أبَرَّتْ أيقظت فينا الملل، الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها
وتتعطر بدماء قتلاها، الحياة امرأة ترتدي الأيام البيضاء المبطنة بالليالي
السوداء، الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلا وتأباه حليلا، الحياة امرأة عاهرة،
ولكنها جميلة، ومن يَرَ عُهْرَهَا يكره جمالها.
منذ سبعين ألف سنة مررت بكم فرأيتكم تتقلبون كالحشرات في
زوايا الكهوف، ومنذ سبع دقائق نظرت من وراء بِلَّوْرِ نافذتي، فوجدتكم تسيرون في
الأزقة القذرة وأبالسةُ الخمولِ تقودكم، وقيودُ العبوديةِ تتمسك بأقدامكم، وأجنحةُ
الموت تصفق فوق رؤوسكم، فأنتم اليوم كما كنتم بالأمس، وستظلون غدا وبعده كما رأيتكم
في البدء، كنا بالأمس فأصبحنا اليوم وهذا ناموس الإلاه يا أبناء الإلاه، فما هي سُنَّةُ
القرود بكم يا أبناء القرود؟
هو متطرف بمبادئه حتى الجنون، هو خيالي يكتب ليفسد أخلاق
الناشئة، لو اتبع الرجال والنساء المتزوجون وغير المتزوجين آراء جبران في الزواج
لتقوضت أركان العائلة، وانهدمت مباني الجامعة البشرية، وأصبح العالم جحيما وسكانه
شياطين، قَهْراً عما في أسلوبه الكتابي من الجمال، فهو من أعداء الإنسانية، هو
فوضوي كافر ملحد، ونحن ننصح لسكان هذا الجبل المبارك، بأن ينبذوا تعاليمه ويحرقوا
مؤلفاته، لئلا يَعْلَقَ منها شيء في نفوسهم، قد قرأنا له الأجنحة المتكسرة
فوجدناها السم في الدسم، هذا بعض ما يقوله
الناس عني-وهم مصيبون-فأنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي
قلبي كره لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر
وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة.
أما قول بعضهم: إن كتاباتي "سم في دسم" فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لا أمزج السم بالدسم، بل أسكبه صِرْفاً، غير أنني أسكبه في كؤوس نظيفة شفافة، أما الذين يعتذرون عني أمام نفوسهم قائلين:"هو خيالي يسبح مرفرفا بين الغيوم، فهم الذين يحدقون بلمعان تلك الكؤوس الشفافة منصرفين عما في داخلها من الشراب الذي يدعونه سُمّاً لأن مِعَدَهُمْ الضعيفة لا تهضمه، قد تدل هذه التوطئة على الوقاحة الخشنة، ولكن أليست الوقاحة بخشونتها أفضل من الخيانة بنعومتها؟
إن الوقاحة تُظْهِرُ نفسها بنفسها، أما الخيانة فترتدي ملابس فُصِّلَتْ لغيرها، إن الشرقيين يحبون العسل، ولا يستطيبون سواه مأكلا، وقد أفرطوا بالتهامه حتى تحولت نفوسهم إلى عسل تسيل أمام النار، ولا تتجمد إلا وُضِعَتْ على الثلج، ويطلب الشرقيون من الشاعر أن يُحْرِقَ نفسه بخورا أمام سلاطينهم، وحكامهم، وبطاركتهم، وقد تلبد فضاء الشرق بغيوم البخور المتصاعدة من جوانب العروش، والمذابح، والمقابر، ولكنهم لا يكتفون.
ويطلب الشرقيون من المفكر أن يُعِيدَ على مسامعهم ما قاله بيدبا وابن رشد وافرام السرياني ويوحنا الدمشقي، وأن لا يتعدى بكتاباته حدود الوعظ البليد، والإرشاد السقيم، وما يجيء بينهما من الحكم والآيات التي إذا ما تمشى عليها الفرد كانت حياته كالأعشاب الضئيلة التي تنبت في الظل، ونفسه كالماء الفاتر الممزوج بقليل من الأفيون.
وبالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر، ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية الفَكِهَة، ويكرهون المبادئ والتعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم، وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة، إنما الشرق مريض قد تناوبته الْعِلَلُ، وتداولته الأوبئة حتى تَعَوَّدَ السَّقَمَ، وأَلِفَ الألمَ، وأصبح ينظر إلى أَوْصَابِهِ، وَأَوْجَاعِهِ كصفات طبيعية، بل كَخِلاَلٍ حسنةٍ ترافق الأرواح النبيلة، والأجساد الصحيحة، فمن كان خاليا منها عُدَّ ناقصا محروما من المواهب، والكمالات العلوية، وأطباء الشرق كثبرون يلازمون مضجعه، ويتآمرون في شأنه، ولكنهم لا يُدَاوُونَهُ بغير المخدرات الوقتية التي تُطيل زمن العلة ولا تُبْرِئُهَا.
أما تلك المخدرات المعنوية، فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان، وقد تَوَلَّدَ بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض والعاهات عن بعضها بعضا، وكلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مُخَدِّراً جديداً، وأما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات، فعديدة أهمها: استسلام العليل إلى فلسفة القضاء والقدر المشهورة، وجُبْنُ الأطباء، وخوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة، وإليك أمثلة من تلك المخدرات والمسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون لمعالجة الأمراض العائلية والوطنية والدينية:
أما قول بعضهم: إن كتاباتي "سم في دسم" فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لا أمزج السم بالدسم، بل أسكبه صِرْفاً، غير أنني أسكبه في كؤوس نظيفة شفافة، أما الذين يعتذرون عني أمام نفوسهم قائلين:"هو خيالي يسبح مرفرفا بين الغيوم، فهم الذين يحدقون بلمعان تلك الكؤوس الشفافة منصرفين عما في داخلها من الشراب الذي يدعونه سُمّاً لأن مِعَدَهُمْ الضعيفة لا تهضمه، قد تدل هذه التوطئة على الوقاحة الخشنة، ولكن أليست الوقاحة بخشونتها أفضل من الخيانة بنعومتها؟
إن الوقاحة تُظْهِرُ نفسها بنفسها، أما الخيانة فترتدي ملابس فُصِّلَتْ لغيرها، إن الشرقيين يحبون العسل، ولا يستطيبون سواه مأكلا، وقد أفرطوا بالتهامه حتى تحولت نفوسهم إلى عسل تسيل أمام النار، ولا تتجمد إلا وُضِعَتْ على الثلج، ويطلب الشرقيون من الشاعر أن يُحْرِقَ نفسه بخورا أمام سلاطينهم، وحكامهم، وبطاركتهم، وقد تلبد فضاء الشرق بغيوم البخور المتصاعدة من جوانب العروش، والمذابح، والمقابر، ولكنهم لا يكتفون.
ويطلب الشرقيون من المفكر أن يُعِيدَ على مسامعهم ما قاله بيدبا وابن رشد وافرام السرياني ويوحنا الدمشقي، وأن لا يتعدى بكتاباته حدود الوعظ البليد، والإرشاد السقيم، وما يجيء بينهما من الحكم والآيات التي إذا ما تمشى عليها الفرد كانت حياته كالأعشاب الضئيلة التي تنبت في الظل، ونفسه كالماء الفاتر الممزوج بقليل من الأفيون.
وبالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر، ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية الفَكِهَة، ويكرهون المبادئ والتعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم، وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة، إنما الشرق مريض قد تناوبته الْعِلَلُ، وتداولته الأوبئة حتى تَعَوَّدَ السَّقَمَ، وأَلِفَ الألمَ، وأصبح ينظر إلى أَوْصَابِهِ، وَأَوْجَاعِهِ كصفات طبيعية، بل كَخِلاَلٍ حسنةٍ ترافق الأرواح النبيلة، والأجساد الصحيحة، فمن كان خاليا منها عُدَّ ناقصا محروما من المواهب، والكمالات العلوية، وأطباء الشرق كثبرون يلازمون مضجعه، ويتآمرون في شأنه، ولكنهم لا يُدَاوُونَهُ بغير المخدرات الوقتية التي تُطيل زمن العلة ولا تُبْرِئُهَا.
أما تلك المخدرات المعنوية، فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان، وقد تَوَلَّدَ بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض والعاهات عن بعضها بعضا، وكلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مُخَدِّراً جديداً، وأما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات، فعديدة أهمها: استسلام العليل إلى فلسفة القضاء والقدر المشهورة، وجُبْنُ الأطباء، وخوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة، وإليك أمثلة من تلك المخدرات والمسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون لمعالجة الأمراض العائلية والوطنية والدينية:
-ينفر الرجل من
زوجته، والمرأة من بعلها، لأسباب عائلية وضعية حيوية، فيتخاصمان ويتضاربان ويتباعدان،
ولكن لا يمر يوم وليلة حتى يجتمع أهل الرجل بأهل زوجته فيتبادلوا الآراء المزخرفة والأفكار
المرصعة، ثم يتفقوا على إيجاد السلام بين الزوجين، فيأتون بالمرأة ويستهوون
عواطفها بالمواعظ الملفقة التي تُخْجِلُهَا ولا تُقنِعُهَا، ثم يستدعوا الرجل ويغمروا
رأسه بالأقوال والأمثال المزركشة التي تُلَيِّنُ أفكارهُ ولا تُغَيِّرُهَا، وهكذا
يتم الصلح-الصلح الوقتي- بين الزوجين المتنافرين بالروح فيعودا قهرا عن إرادتهما
إلى السكن تحت سقف واحد حتى (يَبُوخَ) الطِّلاَءُ ويزول تأثير المخدر الذي استخدمه الأهل
والأنسباء، فيعود الرجل إلى إظهار نفوره ومقته، والمرأة إلى إزالة النقاب عن
تعاستها، غير أن الذين أوجدوا الصلح في المرة الأولى يوجدونه ثانية، ومن يرتشف
جرعة من المخدرات لا يَأْبَى شرب كَأْسٍ دِهَاقٍ
(مُمْتَلِئَةٍ).
-يتمرد قوم على حكومة جائرة أو على نظام قديم، فيؤلفون
جمعية إصلاحية ترمي إلى النهوض والانعتاق، فيخطبون بشجاعة، ويكتبون بحماسة، وينشرون
اللوائح والبرامج، ويبعثون الوفود والممثلين، ولكن لا يمر شهر أو شهران حتى نسمع
بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية، أو عَهِدَتْ إليه بوظيفة، أما الجمعية
الإصلاحية فلا نعود نسمع عنها شيئا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلا من المخدرات المعهودة،
وعادوا إلى السكينة والسلام.
-تتمرد طائفة على رئيس دينها لأمور أولوية، فتنتقد شخصه،
وتُنْكِرُ أعماله، وتتبرم من مآتيه، ثم تهدده باعتناقها مذهبا آخر أقرب إلى العقل،
وأبعد عن الأوهام والخرافات، ولكن لا يمر رِدْحٌ من الزمن حتى نسمع أن عقلاء البلاد
قد أزالوا الخلاف بين الراعي ورعيته، وأرجعوا بفضل المخدرات السحرية الْهَيْبَةَ
إلى شخص الرئيس، والطاعة العمياء إلى نفوس المرؤوسين العَقُوقِينَ.
-يتظلم مغلوب ضعيف من ظالم قوي فيقول له جاره: "اسكت
فالعين التي تعاند السهم تُفْقَأُ".
-يشك القروي في تقوى الرهبان وإخلاصهم فيقول له زميله: "اصمت
فقد جاء في الكتاب اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم".
-يسأل الشاب مستفسرا معاني الزوائد الدينية فيقول له
الكاهن: "من لا ينظر بعين الإيمان لا يرى في هذا العالم سوى الضباب والدخان".
وهكذا تمر الأيام إثر الليالي، والشرقي مضطجع على فراشه
الناعم، يستيقظ دقيقة عندما تلسعه البراغيث، ثم يعود ويهجع جيلا بحكم المخدرات
التي تمازج دمه وتسير في عروقه، فإذا ما قام رجل وصرخ بالنائمين، وملأ منازلهم
ومعابدهم ومحاكمهم بالضجيج، يفتحون أجفانهم الْمُطْبَقَةِ بِالنُّعَاسِ الْأَبَدِيِّ، ثم
يقولون متثائبين:"ما أخشنه من فتى لا ينام، ولا يدع الناس كي يناموا"،
ثم يغمضون عيونهم، ويهمسون في آذان أرواحهم:"هو كافر ملحد يُفْسِدُ أخلاق
الناشئة، ويهدم مباني الأجيال، ويرشق الإنسانية بالسهام السامة".
قد سألت نفسي مرات إن كنت من المستيقظين المتمردين الذين
يَأْبَوْنَ شرب المخدرات، فكانت نفسي تجيبني بكلمات مُبْهَمَةٍ مُلْتَبِسَةٍ،
ولكنني لما سمعت الناس يجدفون على إسمي، ويتأففون من مبادئي، أيقنت بحقيقة يقظتي،
وعلمت أنني لست من المستسلمين إلى الأحلامِ اللذيذةِ، والخيالاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ،
بل من أولئك الْمُسْتَوْحِدِينَ الذين تُسَيِّرُهُمْ الحياة على سُبُلٍ ضيقةٍ مغروسةٍ بالأشواك، والأزهار محفوفة بالذئاب الخاطفة، والبلابل المترنمة.
غدا يقرأ الأدباء المفكرون ما تَقَدَّمَ، فيقولون متضجرين:
"هو متطرف ينظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة، فلا يرى غير الظلام، ولطالما
وقف فينا نادبا، نائحا، باكيا علينا متأوها لحالنا، فلهؤلاء الأدباء المفكرين
أقول: "أنا أندب الشرق، لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مطبق، أنا أبكي على
الشرقيين لأن الضحك على الأمراض جهل مركب، أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة، لأن
الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء، أنا متطرف، لأن من يعتدل بإظهار الحق
يُبَيِّنُ نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوبا وراء خوفه من ظنون الناس وتقولاتهم، أنا
أرى الجيفة المنتنة، فتشمئز نفسي، وتضطرب أحشائي، ولا أستطيع أن أجلس قُبالَتها
وفي يميني كأس من الشراب، وفي شمالي قطعة من الحلوى.
فإن كان هناك من يريد أن يبدل نَوْحِي بالضحك، ويحول اشمئزازي إلى الانعطاف، وتطرفي إلى الاعتدال، فعليه أن يُريِني بين الشرقيين حاكما عادلا، ومشرعا مستقيما، ورئيس دين يعمل بما يعلم، وزوجا ينظر إلى امرأته بالعين التي يرى بها نفسه، إن كان هناك من يريد أن يشاهدني راقصا، ويسمعني مطبلاً ومزمراً فعليه أن يدعوني إلى بيت العريس لا أن يوقفني بين المقابر.
فإن كان هناك من يريد أن يبدل نَوْحِي بالضحك، ويحول اشمئزازي إلى الانعطاف، وتطرفي إلى الاعتدال، فعليه أن يُريِني بين الشرقيين حاكما عادلا، ومشرعا مستقيما، ورئيس دين يعمل بما يعلم، وزوجا ينظر إلى امرأته بالعين التي يرى بها نفسه، إن كان هناك من يريد أن يشاهدني راقصا، ويسمعني مطبلاً ومزمراً فعليه أن يدعوني إلى بيت العريس لا أن يوقفني بين المقابر.
أنا غريب في هذا العالم، أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية
ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح
أرض قصية ما رأتها عيني، أنا غريب عن أهلي وخلاني، فإذا ما لقيت واحدا منهم أقول
في ذاتي:"من هذا، وكيف عرفته، وأي ناموس يجمعني به، ولماذا أقترب منه
وأجالسه؟".
أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلما تستغرب أذني صوتي، وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مستبسلة، خائفة، فَيُعْجَبُ كياني بكياني، وتُسْتَنْفَرُ روحي، ولكنني أبقى مجهولا، مستترا، مكتنفا بالضباب، محجوبا بالسكوت.
أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلما تستغرب أذني صوتي، وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مستبسلة، خائفة، فَيُعْجَبُ كياني بكياني، وتُسْتَنْفَرُ روحي، ولكنني أبقى مجهولا، مستترا، مكتنفا بالضباب، محجوبا بالسكوت.
أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي
ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما لا تُكِنُّهُ أعماقي، أسير في شوارع المدينة
فيتبعني الفتيان صارخين:"هذا ذا الأعمى فلنعطه عكازا يتوكأ عليها"،
فأهرب منهم مسرعا، ثم ألتقي بسرب من الصبايا فيتشبتن بأذيالي قائلات:"هو أطرش
كالصخر فلنملأ أذنيه بأنغام الصبابة والغزل"، فأتركهن راكضا، ثم ألتقي بجماعة
من الكهول فيقفون حولي قائلين:"هو أخرس كالقبر فتعالوا نُقَوِّمُ اعوجاج
لسانه"، فأغادرهم خائفا، ثم ألتقي برهط من الشيوخ فيومؤون نحوي بأصابع مرتعشة
قائلين:"هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الْجِنِّ والغِيلاَنِ".
أنا غريب في هذا
العالم، أنا غريب وقد جُبْتُ (تجولت في) مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي
ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي، أستيقظ في الصباح فأجدني مسجونا في كهف مظلم
تتدلى الأفاعي من سقفه وتدب الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور فيتبعني خيال
جسدي، أما خيالات نفسي فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثة عن أمور لا أفهمها،
قابضة على أشياء لا حاجة لي بها، وعندما يأتي المساء أعود وأضطجع على فراشي
المصنوع من ريش النعام وشوك القَتَادِ (شجر صلب له شوك كالإبر)، فتراودني أفكار
غريبة وتتناوبني أميال مزعجة مفرحة موجعة لذيذة، ولما ينتصف الليل تدخل علي من
شقوق الكهف أشباح الأزمنة الغابرة وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها وتحدق بي،
وأخاطبها مستفهما فتجيبني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها فتتوارى مضمحلة كالدخان.
أنا غريب في هذا العالم، أنا غريب وليس في الوجود من
يعرف كلمة من لغة نفسي، أسير في البرية الخالية فأرى السواقي تتصاعد متراكضة من
أعماق الوادي إلى قمة الجبل، وأرى الأشجار العارية تكتسي وتزهر وتثمر وتنثر
أوراقها في دقيقة واحدة، ثم تهبط أغصانها إلى الحضيض وتتحول إلى حيات رقطاء
مرتعشة، وأرى الطيور متصاعدة، هابطة، مغردة مولولة، ثم تقف وتفتح أجنحتها وتنقلب
نساء عاريات، محلولات الشعر، ممدودات الأعناق ينظرن إلي من وراء أجفان مكحولة
بالعشق، ويبتسمن لي بشفاه وردية مغموسة بالعسل، ويمددن نحوي أيادي بيضاء ناعمة
معطرة بالمن واللبان، ثم ينتفضن ويختفين عن ناظري ويضمحللن كالضباب تاركات في
الفضاء صدى ضحكهن مني واستهزائهن بي.
أنا غريب في هذا العالم، أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة
وأنثر ما تنظمه، ولهذا أنا غريب وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى
وطني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق