فليحيا اللئام والبخلاء والسفلة والأغبياء

"يبدو العالم غبيا بالنسبة لي، لأن كل سلطة، كل شرف، كل شهرة، كل ذلك تافه، ليس هنالك ما يجب القيام به على الأرض سوى الكتابة والأكل والشرب والسفر والتناكح" الكاتب والصحفي الفرنسي باتريك بيسون
فليحيا اللئام والبخلاء والسفلة والأغبياء
ليس باستطاعة العبقرية والذكاء أن يقفا ويصمدا لدقيقة واحدة في وجه غباء الموضة العصرية الحالية، موضة الأشياء والتفاهة والميوعة، كل هذه الأشياء المحيطة بالبشر من آخر مبتكرات التكنولوجيا التي أضحت تسلسل أعناق الخلق وتستعبدهم وتسلبهم أعز ما عندهم: الكرامة والحرية والذكاء. 
وكل هذه التفاهة والميوعة التي غزت غزوا خطيرا لم يسبق له نظير ميادين تعتبر بمثابة حجر الزاوية لسلامة المجتمع وتماسكه وصحته العقلية والنفسية كالتعليم والفن والصحة والرياضة والصحافة بحميع تلاوينها، ضربت ضربة قاتلة للذكاء والفكر النير والفن الراقي والأدب السامي، بحيث أضحت عاجزة لا حول ولا قوة لها، ولم تعد قادرة  على الوقوف أمام موضة الغباء البشري وأتباعها ومناصريها الكثر الذين يعدون بالملايير على صعيد الكرة الأرضية. 
والطامة الكبرى في الوقت الراهن تكمن في أن الغباء صار ملكا متوجا واثقا من نفسه أكثر من اللازم وأكثر من أي وقت مضى، في حين أن العبقرية والذكاء  أضحت تساورها الكثير من الشكوك حتى في ماهيتها وكينونتها، بل في سر وجودها في عالم انتصر فيه الغباء عليها بالضربة القاضية، وأضحى العالم الحديث تقوده شرذمة من اللؤماء والبخلاء والسفلة والأغبياء والحثالات البشرية في جميع ميادين الحياة، وبذلك توارى عن مسرح الأحداث ما تبقى من العقلاء والأذكياء أو أخذتهم أيدي المنون إلى عالم الصمت حيث الصفاء والنقاء، أو زهدوا في المناصب والكراسي، تاركين بذلك الأغبياء وحثالات الدهماء فيما بينهم يتناسلون ويتفاخرون، ويتقاتلون حتى الفناء على الكراسي والأرداف والدنانير.
لقد كان الطبيب الجراح الفرنسي الكبير ألكسيس كاريل - الثائر على مهنة الطب لأنه كان يؤمن أيضا بالروح خلافا لمعتقدات معشر الأطباء الذين يعتبرون الإنسان مجرد مصنع ‘factory’ بدون روح، تتم بداخله مجموعة من التفاعلات الكيماوية لا أقل ولا أكثر، مصيبا جدا في كتابه الممتع والمفيد "الإنسان ذلك المجهول" -الذي قرأته أكثر من مرة وسأبقى كلما راودني الحنين إلى أفكار هذا الرجل ذو الفطرة السوية النقية أُعِيدُ قراءته- لَمَّا أَرْجَعَ تدهور مستوى الطبقات (المسماة بالمثقفة) إلى انتشار الصحف الصفراء السخيفة التافهة ذات المستوى الهابط انتشارا واسع المدى، وكذا إلى انتشار الأدب وما يسمى ب(الفن) الهابط المائع، وغزو الراديو ودور السينما (في ذلك الوقت لم تكن الفضائيات والإنترنت قد سمما أجواء الدنيا وملأتها فساد أخلاق وأذواق على جميع الأصعدة والمستويات)، وعلى أية حال فالسعادة التي يجري وراءها الناس في كل الأوقات هي علامة أكيدة على درجة كبيرة من الغباء.
واعتبر هذا الرجل -الصادق والسابق لزمانه فيما يقول- أن كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى توسع الطبقة الغبية بشكل رهيب وازديادها باطراد، وذلك بالرغم من كمال المناهج الدراسية في المدارس والكليات والجامعات والمعاهد، وأثار هذا الطبيب علامة تعجب في كون  بلادة الدهن توجد غالبا حيثما تتقدم المعرفة العلمية، وأرجع السبب في ذلك في كون أطفال المدارس وطلبة الكليات والجامعات والمعاهد يكونون عقلهم من البرامج السخيفة والتافهة التي توضع لوسائل التسلية العامة في التلفزيون والصحف (إضافة للإنترنت في الوقت الراهن)، وتبعا لذلك فإن البنية الاجتماعية العصرية تناهض نمو العقل وتدمر ملكاته بكل قوتها بدلا من أن تعمل على هذا النمو.
أما الكاتب الفرنسي مارتن باج Martin Page ‏ مؤلف الرواية الفلسفية الساخرة الشهيرة 'كيف أصبحت غبيا'، فيقدم من خلال هذه الرواية الرائعة  حلا سحريا للمرء حينما يكون ذكياً جداً ويتمنى أن يصبح غبياً، من خلال سرد محبك لسيرة أحد المثقفين المسمى أنطوان، الحائز على أعلى الشهادات والديبلومات، وبالرغم من ذلك فإن التعاسة عكرت عليه صفو حياته وملأتها ضجرا وحولتها إلى  معيشة ضنك.
فأنطوان المثقف هذا يعتقد أن ذكاءه هو السبب الرئيسي الذي نغّص عنه حياته وحولها إلى جحيم لا يُطاق، وبعد عدة محاولات عبثية وفاشلة كي يصبح مدمناً على الكحول وينتحر للخلاص نهائيا من عذابه الدنيوي، قرر أنطوان في الأخير وعن طيب خاطر أن يصبح غبياً كباقي خلق الله كي يعيش أخيراً حياة أكثر سعادة كما يعتقد الجميع، وبذلك انضم إلى جو الغباء العام المسيطر على العالم، وانغمس هو الآخر في خضم الحياة المعاصرة والمجتمع الاستهلاكي، متكيّفاً مع وضعه كشخص طبيعي يشتري ويستهلك ويفكر كباقي القطيع.
أما شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم المراكشي المعروف بنكتته وخفة دمه وسرعة بديهته وتهكمه على الواقع  المعاش فكان له رأي آخر في الأغبياء، لأنه امتدحهم في القصيدة التالية، وجعل منهم مكونا أساسيا وضروريا لاستمرارية حياة الجنس البشري، إسوة بالجهال والبخلاء واللئام والسفلاء وباقي الحثالات البشرية التي تملأ الأرض وتتكاثر بالليل والنهار:
كَثَّرَ     اللهُ   زُمْرَةَ   الأَغْبِيَاءِ       وَجَزَاهُمْ  خَيْراً  عَنِ الأَذْكِيَاءِ
وَوَقَاهُمْ  مِنْ كُلِّ عَيْنٍ  تُؤَدِّي      بِهِمْ   لانْقِرَاضِهِمْ  وَانْقِضَائِي
لاَ  عَدِمْنَا  لَهُمْ وُجُوداً فَلَوْلاَ       هُمْ لَمَا بَانَ قَطُّ فَضْلُ الذَّكَاءِ
وَذَوُو الْقَدْرِ  وَالْمَكَانَةِ سَاوَوْا      غَيْرَهُمْ   مِنْ  حُثَالَةِ  الدَّهْمَاءِ
خَلَقَ  اللهُ  فِي   التَّبَايُنِ  سِرّاً   َ    بَلْ حَوَى فِيهِ حِكْمَةَ الحُكَمَاءِ
فِبهِ  امْتَازَ  عَالِمٌ  مِنْ  جَهُولٍ       وَكَرِيمٌ   عَنْ  زُمْرَةِ   الْبُخَلاَءِ
آهِ لَوْلاَهُمْ لاَسْتَوَى كُلُّ ضِدٍّ        مَعَ   ضِدٍّ  بِلاَ   كَبِيرِ   عَنَاءِ
وَاسْتَوَى فِي الأَنَامِ خَيْرٌ وَشَرٌّ        وَتَسَاوَى   نُورٌ  مَعَ  الظَّلْمَاءِ
وَلِذَا   فَلْيَدُمْ    لِئَامٌ    وَبُخَّا        ـلٌ وَسُفْلٌ وَعَاشَ أَهْلُ الْغَبَاءِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق