مَا أَتْعَسَ الأُمَمَ إِذَا بَاتَ الْمَالُ عِنْدَهَا مِعْيَارَ التَّفَاضُلِ ومِنْهَاجَ التَّعَامُلِ

مَا أَتْعَسَ الأُمَمَ إِذَا بَاتَ الْمَالُ عِنْدَهَا مِعْيَارَ التَّفَاضُلِ ومِنْهَاجَ التَّعَامُلِ
أَرْبَعَةٌ لاَ يَزُولُ مَعَهَا مُلْكٌ: حِفْظُ الدِّينِ، واسْتِكْفَاءُ الأَمِينِ، وتَقْدِيمُ الْحَزْمِ، وإِمْضَاءُ العَزْمِ.. وَأَرْبَعَةٌ لاَ يَثْبُتُ مَعَهَا مُلْكٌ: غِشُّ الْوَزِيرِ، وَسُوءُ التَّدْبِيرِ، وخُبْثُ النِّيَّةِ، وظُلْمُ الرَّعِيَّةِ.. وَأَرْبَعَةٌ لاَ بَقَاءَ لَهَا: مَالٌ يُجْمَعُ مِنَ الْحَرَامِ، وَحَالٌ تُعْقَدُ مِنَ الآثَامِ، وَدَوْلَةٌ تَعَرَّتْ مِنَ الْعَقْلِ، وَمُلْكٌ يَخْلُو مِنَ الْعَدْلِ.. وَأَرْبَعَةٌ لاَ يَطْمَعُ فيِهَا عَاقِلٌ: غَلَبَةُ الْقَضَاءِ، وَنَصِيحَةُ الأَعْدَاءِ، وَتَغَيُّرُ الْخُلُقِ، وَإرْضَاءُ الْخَلْقِ.. وَأَرْبَعَةٌ لاَ يَخْلُو مِنْهَا جَاهِلٌ: قَوْلٌ بِلاَ مَعْنَى، وَفِعْلٌ بِلاَ جَدْوَى، وَخُصُومَةٌ بِلاَ طَائِلٍ، وَمُنَاظَرَةٌ بِلاَ حَاصِلٍ.. وَأَرْبَعَةٌ تُؤَكِّدُ الْمَحَبَّةَ: حُسْنُ الْبِشْرِ، وبَذْلُ الْبِرِّ، وَقَصْدُ الْوِفَاقِ، وَتَرْكُ النِّفَاقِ.. وَأَرْبَعَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْكَرِيمِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الأَذَى، وتَعْجِيلُ الْمَثُوبَةِ، وتَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ.. وَأَرْبَعَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْعِفَّةُ عَلَى الدِّيَّانَةِ، وَالنَّصِيحةُ عَلَى الأَمَانَةِ، وَالصَّمْتُ عَلَى العَقْلِ، والْعَدْلُ عَلَى الفَضْلِ.. وَأَرْبَعَةٌ يُقْضَى بِهَا عَلَى أَرْبَعَةٍ: السِّعَايَةُ عَلَى الدَّنَاءَةِ، والإِسَاءَةُ عَلَى الرَّدَاءَةِ، وَالْحَلِفُ عَلَى البُخْلِ، وَالسَّخَافَةُ عَلَى الْجَهْلِ.. وَأَرْبَعَةٌ لاَ تَنْتَصِفُ مِنْ أَرْبَعَةٍ: شَرِيفٌ مِنْ دَنيِءٍ، وَسَيِّدٌ مِنْ غَوِيٍّ، وَبِرٌّ مِنْ فَاجِرٍ، وَمُنْصِفٌ مِنْ جَاهِلٍ.. وَأَرْبَعَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَقْلِ: حُبُّ الْعِلْمِ، وَحُسْنُ السِّلْمِ، وَصِحَّةُ الْجَوَابِ، وَكثْرَةُ الصَّوَابِ.
قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: كيف أصْبَحْتَ؟ قال: أَصْبَحْتُ والدُّنْيَا غَمِّي، والآخِرَةُ هَمِّي، وقِيلَ لِصُوِفِيٍّ ما صِنَاعَتُكُمْ؟ فقال: حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ، وسُوءُ الظَّنِّ بالنَّاسِ، وحَاكَ أحَدُ الصُّنَّاعِ ثَوْباً وَتَأَنَّقَ في صِنْعَتِهِ، فَلَمَّا بَاعَهُ رُدَّ عَلَيْهِ بِعُيُوبٍ فِيهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: يَا هَذَا لاَ تَبْكِ فَقَدْ رَضَيْتُ بِهِ، فَقَالَ الصَّانِعُ: مَا بُكَائِي لِذَلِكَ بَلْ لِأَنِّي بَالَغْتُ فِي صِنْعَتِهِ وَتَأَنَّقْتُ فِيهِ جُهْدِي، فَرُدَّ عَلَيَّ بِعُيُوبٍ كَانَتْ خَفِيَّةً عَنِّي، وَأَخَافُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي هَذَا الَّذِي أَعْمَلُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ لَوْ خَافَ مِنَ النَّارِ كَمَا يَخَافُ مِنَ الْفَقْرِ لَنَجَا مِنْهُمَا جَمِيعاً، وَلَوْ رَغِبَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا رَغِبَ فِي الدُّنْيَا لَفَازَ بِهِمَا جَمِيعاً، وَلَوْ خَافَ اللهََ فِي الْبَاطِنِ كَمَا يَخَافُ خَلْقَهُ فِي الظَّاهِرِ، لَسَعِدَ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعاً، وَمَنْ ضَاقَ قَلْبُهُ اتَّسَعَ لِسَانُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَجْمَعَ عَقْلُهُ عَقْلَ الْعُقَلاَءِ، وَإِلَى رَأْيهِ رَأْيَ الْحُكَمَاءِ، فَإِنَّ الرَّأْيَ الْفَذَّ رُبَّمَا زَلَّ، وَأَنَّ الْعَقْلَ الْفَرْدَ رُبَّمَا ضَلَّ، وَكُلُّ شَئٍْ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّجَارِبِ، وَالْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالأَدَبِ لاَ بِالأَصْلِ وَالنَّسَبِ، لِأَنَّ مَنْ سَاءَ أَدَبُهُ ضَاعَ نَسَبُهُ، وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ، وَحُسْنُ الأَدَبِ يَسْتُرُ قُبْحَ النَّسَبِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ وَذَرِيعةٌ إِلَى كُلِّ شَرِيعَةٍ، وَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ عِبْرَةُ الْعَاقلِ، وَفِي تَقَلُّبِ الأَحْوَالِ تَعْلَمُ جَوَاهِرَ الرِّجَالِ، وَمَنْ جَلَسَ فِي صِغَرِهِ حَيْثُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَجْلِسَ جَلَسَ فِي كِبَرِهِ حَيْثُ يَكْرَهُ، وَإِذَا جَاءَ الصَّوَابُ ذَهبَ الْجَوَابُ.
قَالَ مُصْطَفَى السَّيِّدُ: مَا أَشْقَى الْقِيَمَ عِنْدَمَا يُصْبِحُ الْمَالُ وَحْدَهُ لُحْمَتَهَا وَسَدَاهَا، وَمَا أَتْعَسَ الأُمَمَ إِذَا بَاتَ الْمَالُ عِنْدَهَا مِعْيَارَ التَّفَاضُلِ ومِنْهَاجَ التَّعَامُلِ، بِهِ تَرْفَعُ وتَضَعُ، وَفِيهِ تُقَدِّمُ وتُؤَخِّرُ، وَلَهُ تَسْعَى وتُسْرِعُ، وكَمْ يُؤْذِي السَّمْعَ، ويَسْتَدْعِي الازْدِرَاءَ قَوْلُ أَقْوَامٍ بِأَنَّ فُلاَناً رَجُلٌ، وَإذَا رُحْتَ تُسَائِلُ هَؤُلاَءَ النَّاسَ: فِيمَ اسْتُرْجِلَ، أَجَابُوا-وبِئْسَ الجَوَابُ-بِثَرْوَتِهِ الْمَالِيَّةِ وَمَكَانَتِهِ الاِقْتِصَادِيَّةِ.
وَمِنَ الْحِكَمِ الْجَارِيَّةِ: الْغَرِيبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبِيبُ، وَإذَا نَزَلَ القَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، وَمَا الإِنْسَانُ إِلاَّ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ،  وَالْحُرُّ حُرٌّ وَإِنْ مَسَّهُ الضُّرُّ، وَبَعْضُ الْكَلاَمِ أَقْطَعُ مِنَ الْحُسَامِ، وَالْبِطْنَةُ تُذْهِبُ الْفِطْنَةَ، وَإِذَا قُدِّمَ الإِخَاءُ سَمُجَ الثَّناءُ، ولِكُلِّ سَاقِطَةٍ لاَقِطَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الدُّنْيَا تُطْلَبُ لِثَلاَثٍ: الْغِنَى، وَالْعِزُّ، وَالرَّاحَةُ، فَمَنْ زَهِدَ فِيهَا عُزَّ، وَمَنْ قَنَعَ اسْتَغْنَى، وَمَنْ قَلَّ سَعْيُهُ اسْتَرَاحَ، وَإِذَا طَلَبْتَ العِزَّةَ فَاطْلُبْهَا فِي الطَّاعَةِ، وإِنْ طَلَبْتَ الْغِنَى فَاطْلُبْهُ فِي الْقَنَاعَةِ، وَلَتَرْكُ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِي لِأَعْدَائِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ فِي حَيَاتِي لِأَصْدِقَائِي، وَلَعَلَّ عَدُواًّ إِذَا لَقِيَكَ سَأَلَكَ خَيْرٌ مِنْ صَدِيقٍ إِذَا افْتَقَرْتَ إِلَيْهِ سَأَلْتَهُ، وَإذَا احْتَاجَ إِلَيْكَ عَدُوُّكَ أَحَبَّ بَقَاءَكَ، وَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْكَ صَدِيقُكَ هَانَ عَلَيْهِ لِقَاؤُكَ، وَكُلُّ الدُّنْيَا فُضُولٌ إِلاَّ خَمْساً: خُبْزٌ تَشْبَعُ بِهِ، وَمَاءٌ تَرْتَوِي بِهِ، وَثَوْبٌ تَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَكَ، وبَيْتٌ تَسْكُنُهُ، وعِلْمٌ تَسْتَعْمِلُهُ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَثَلُ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ كَقَوْمٍ رَاقُوا جَبَلاً ثُمَّ وَقَعُوا مِنْهُ، فَكَانَ أَبْعَدُهُمْ فِي الْمَرْقَى أَقْرَبَهُمْ مِنَ التَّلَفِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَكَ فَانْظُرْ فِيمَا أَقَامَكَ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ وَفَاءَ الرَّجُلِ فَانْظُرْ إلى حَنِينِهِ إِلَى إِخْوَانِهِ وَشَوْقِهِ إِلَى أَوْطَانِهِ، وبُكَائِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ.
وَفِي الأَمْثالِ السَّائِرَةِ: لاَ يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَإِذَا حَلَّ الْقَدَرُ بَطُلَ الْحَذَرُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ وَأَنَا أُرِيدُ وَاللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَالْعَاجِزُ عَنِ التَّدْبِيرِ يُحِيلُ عَلَى الْمَقَادِيرِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: "إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أُمُورَ عُمَّالِهِ حَتَّى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ إِحْسَانُ مُحْسِنٍ أَوْ إِسَاءَةُ مُسِيءٍ، لِأَنَّهُ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ أَعْمَالَ عُمَّالِهِ لَمْ يَكُنْ قَائِماً بِالْعَدْلِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ إِسْمَ الرِّئَاسَةِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثةُ أَشْيَاءٍ: الْعَقْلُ، وَالْعِلْمُ، وَالْمَنْطِقُ، ثُمَّ يَتَعَرَّى عَنْ سِتَّةِ أَشْيَاءٍ: عَنِ الْحِدَّةِ، وَالْعَجَلَةِ، وَالْحَسَدِ، وَالْهَوَى، وَالْكَذِبِ، وَتَرْكِ الْمُشَاوَرَةِ، ثُمَّ لِيَلْزَمَ فِي سِيَّاسَتِهِ عَلَى دَائِم الأَوْقَاتِ ثَلاَثَةَ أَشْيَاءٍ: الرِّفْقَ فِي الأُمُورِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الأَشْيَاءِ، وطُولَ الصَّمْتِ، فَمَنْ تَعَرَّى عَنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ وَهُوَ ذُو سُلْطَانٍ عَمِيَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَتَشَتَّتَتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ خِصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ نَقُصَ مِنْ ضَوْءِ بَصَرِ قَلْبِهِ مِثْلُهَا، وَدَخَلَ الْخَلَلُ فِي أُمُورِهِ نَحْوَهَا، وَإِنَّمَا مَثَلُ الرَّئِيسِ وَالرَّعِيَّةِ كَمَثَلِ جَمَاعَةٍ لَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ قَائِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَائِدُ أَحَدَّ النَّاسِ بَصَراً، وأَلْطَفَهُمْ نَظَراً كَانَ خَلِيقاً أَنْ يُوقِعَهُمْ وَإِيَّاهُ في قَاعِ الْهَاوِيَّةِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق