هنالك
كتاب كبار لم ينالوا من الشهرة ما ناله من هم أقل منهم شأوا، لسبب بسيط هو كونهم
يفضلون الجوهر على المظهر، بينما الآخرون هم على النقيض منهم بالتمام، والكاتب
المسرحي والروائي الفرنسي مَارْسِيلْ أَيْمِي Marcel Aymé (1902-1967)
هو من الفئة الأولى من الكتاب المبدعين في تشكيل الخيال
الجماعي للبشرية، بأسلوبه الذي قد يبدو بسيطا في ظاهره لأول وهلة، لكنه مع ذلك
يبقى جد معقد في حقيقة أمره، لأن سريان مياهه تنساب في الأعماق حيث لا يستطيع نور
الشمس أن يجد إلى ذلك سبيلا، إنه يشبه إلى حد كبير أسلوب الكاتب الروسي العبقري
'أنطون تشيخوف' الذي يغلب عليه النقد الشديد إن لم أقل الأكثر تشاؤما لنظرته
للإنسان، لكنه مع ذلك يظل متسامحا لضعفه، فخلف فصاحة مَارْسِيلْ
أَيْمِي المثيرة للإعجاب يلتحف حسه العالي بوشاح فريد من النكتة والسخرية متفردا
برسم روائع وأحلام من صلب الحياة اليومية للحياة والأحياء.
في
إحدى روائعه تحت عنوان 'الوقت الميت'، يُبدع مَارْسِيلْ أَيْمِي بدرجة
عالية في سرد حكاية عجيبة وخارجة عن المألوف لرجل مسكين من عامة
الناس إسمه مارتان Martin
لا يكون له وجود في الحياة إلا يوما على إثنين، حيث كان
يعيش أربعة وعشرين ساعة على أربعة وعشرين كما يعيش جميع الناس، إلا أنه خلال
الأربعة وعشرين ساعة التالية يتحول وجوده وروحه إلى عدم، أي لا شيء ماديا ملموسا
في الحياة.
وكان
مارتان جد منزعج من هذه الحالة التي كانت تؤرقه لعدة أسباب، فمن جهة لم يكن يحتفظ
في ذاكرته بأية ذكرى عن حياته العدمية أو أوقاته الميتة، وكانت أوقاته الحية عندما
يكون له وجود تلتصق بعضها ببعض في مخيلته بدون فراغات أوقاته العدمية الميتة،
فتبدو له الحياة قصيرة لدرجة أنه أصبح بارعا في تحويلها إلى بؤس وكآبة، خاصة وأنه
كان مرغوبا من عيب إن علم به الجيران سوف يرمقونه بنظرات ارتياب وتوجسس وربما
اتهامه بالجنون أو أكثر، فالحياة يوما واحدا على اثنين هي نوع من التمرد على
الفطرة والحس المتعارف به عند البشر ويعتبر جنونا مطبقا في نظرهم.
وكان
'مارتان' نفسه مصدوما من هذه الحالة الشاذة ويعتقد أنه من الخطورة بقبول هذا
الواقع المخيف، لهذا كان يعمل كل ما في وسعه كي يبقى سر حياته المتقطعة سرا دفينا
لا يعلم به أحد، وخلال عشر سنوات التي لم تكن تمثل في واقعه سوى خمس سنوات، استطاع
أن يحقق نجاحا منقطع النظير في المحافظة على هذا السر الدفين دون أن يعلم به أحد
على الإطلاق.
تعتبر
هذه القصة فكرة جد مدهشة وموضوعا فلسفيا عميقا للتعبير عن الوقت الذي يمر، والذي
يهرب منا، فيتمدد أو يتقلص، فتبدو لنا الساعة كدقيقتين، واليوم كساعة، والشهر
كيوم، والعام كشهر، كما عبر ذلك في
'العبرات' الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي عندما قال: "ما أكثر أيام
الحياة وما أقلها، لم أعش من تلك الأعوام الطوال التي عشتها في هذا العالم إلا
عاما واحدا مر بي كما يمر النَّجْمُ الدَّهْرِيُّ في مساء الدنيا ليلة واحدة ثم لا
يراه الناس بعد ذلك"، وكما عبر عن ذلك في 'عروس تُزَفُّ إلى قبرها' الأديب الكبير
الرزين مصطفى صادق الرافعي بأسلوبه المعهود السلس المهذب الرفيع لما
قال :"واهاً لك أيها الزمن! من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟ واليوم الواحد على
الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميعا، وبهذا يعود لكل مخلوق سر يومه، كما
أن لكل مخلوق سر روحه، وليس إليه لا هذا ولا هذا، وفي اليوم الزمني الواحد
أربعمائة مليون يوم إنساني على الأرض! ومع ذلك يحصيه عقل الإنسان أربعا وعشرين
ساعة؛ يا للغباوة!".
إن
الزمن له حقيقة واحدة هي اللحظة، وبعبارة أخرى فالزمن هو حقيقة واقعة في لحظة
عالقة ما بين لا شيئين يسميان بالماضي والمستقبل، ومهما عمر الإنسان فإن عمره لا
يبدو له سوى اللحظة التي يعيش في حاضرها قبل أن ينطفأ نجمه، وفي الأثر أن
نوحا عليه السلام الذي عمر ألف عام عندما جاءه ملك الموت وقال له: يا أطول أنبياء
الله عمرا كيف وجدت الدنيا؟ أجاب: "وجدت أن لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت
من الآخر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق