
لا زلت أتذكر حكاية 'أراد أن يرشده فأضله' للكاتب والأديب
والشاعر المغربي عبدالمجيد بن جلون رحمه الله (1919-1981) في سلسلة اقرأ الجزء الخامس، الذي اتخذته وزارة التربية الوطنية والشبيبة
والرياضة بالمغرب مقررا للسنة الخامسة من التعليم الابتدائي في ستينيات وسبعينيات
القرن الماضي.
يقول الكاتب: كان بيتنا لا يخلو من ضيف، ولم يكن ضيوفنا
من الإنجليز، وإنما كانوا تجارا من المغرب، يأتون إلى إنجلترا لابتياع النسيج أو
الأواني الفاخرة، ولم تكن مهمة هؤلاء الناس التجارة فقط، وإنما كان عندهم ميل غريب
إلى الاستمتاع بالحياة، تلكم الحياة الضاحكة التي كانت تقدمها إليهم مدن إنجلترا
ومصايفها.
وإذا قدم منهم شخص لأول مرة، فلا بد من أن يتعرض لبعض
الصعوبات، لجهله لغة البلاد وشوارعها، ولكن لم يكن لجهله المؤقت هذا أي تأثير على
تصرفاته، فهو يخرج وحيدا، ويبتاع ما يريد، ويتفاهم مع الناس، وأما كيف كان يتم ذلك
وبأية لغة، فالله به عليمٌ.
حدث أن أقبل زائر جديد من مدينة الدارالبيضاء وأقام
عندنا، وكان أبي مريضا لا يستطيع الخروج، ولذلك كان عليه أن يخرج وحده، ولما خرج
لأول مرة، خرجت معه أختي لتتكفل بمهمة التعبير، وأعطاه أبي ظرفا كتب عليه عنوان
المنزل، ليستطيع أن يُدْلِي به إلى الشرطي عند الضرورة فيهديه الطريق.
خرج صاحبنا مع أختي، وانطلق في الشوارع الواحد تلو
الآخر، وركب السيارة العامة، فابتعد تماما عن المنزل، فلما قضى ما كان يريد وأراد
الرجوع ضل السبيل، سأل أختي: هل تعرفين الطريق؟ فلم تفهم ما يقول، ثم أخذته إلى
أحد الدكاكين ظانة أنه يريد أن يبتاع شيئا، فتضايق من فهمها، واستقر رأيه على أن
ينصرف وحده.
وأخيرا تقدم إلى أحد المارة وابتسم له محييا، فرد عليه
هذه الابتسامة بمثلها، ثم أدخل صاحبنا يده في جيبه وأخرج الظرف، فناوله الرجل الذي
أدرك من هيئته أنه غريب، فأخذ منه الظرف وقرأ العنوان، ثم أخذه إلى أحد الدكاكين،
واشترى منه طابعا للبريد ألصقه على الظرف، ثم أشار له أن يتبعه.
ولشد ما كانت دهشة صاحبنا حينما رأى الرجل يدنو إلى أقرب
صندوق بريد ويُلقي فيه بالظرف، ووقف الرجل مشدوها حينما رأى صاحبنا يكاد يستلقي
على قفاه من الضحك، ولم يسعه إلا أن ينصرف في استغراب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق