الثرثرة وطوائف الثرثارين لجبران خليل جبران

"أَنْتَ تَنْظُرُ بِعَيْنِ الْوَهْمِ فَتَرَى النَّاسَ يَرْتَعِشُونَ أَمَامَ عَاصِفَةِ الْحَيَاةِ فَتَظُنُّهُمْ أَحْيَاءً وَهُمْ أَمْوَاتٌ مُنْذُ الْوِلاَدَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَدْفُنُهُمْ، فَظَلُّوا مُنْطَرِحِينَ فَوْقَ الثَّرَى وَرَائِحَةُ النَّتْنِ تَنْبَعِثُ مِنْهُمْ" جبران خليل جبران في العواصف 'حفار القبور' 
الثرثرة وطوائف الثرثارين لجبران خليل جبران
قَدْ مَلِلْتُ الْكَلاَمَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ! لَقَدْ تَعِبَتْ رُوحِي مِنَ الْكَلاَمِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ! لَقَدْ ضَاعَتْ فِكْرَتِي بَيْنَ الْكَلاَمِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ!أَسْتَيْقِظُ فِي الصَّبَاحِ، فَأَرَى الْكَلاَمَ جَالِساً بِجَانِبِ مَضْجَعِي عَلَى صَفَحَاتِ الرَّسَائِلِ وَالْجَرَائِدِ وَالْمَجَلاَّتِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَِيَّ بِعُيُونٍ مِلْؤُهَا الدَّهَاءُ والْخُبْثُ والرِّيَّاءُ.
أُغَادِرُ فِرَاشِي وَأجْلِسُ إِلَى جَانِبِ النَّافِذَةِ لِأُزِيحَ نِقَابَ النَّوْمِ عَنْ بَصِيرَتِي بِفُنْجَانٍ مِنَ الْقَهْوَةِ، فَيَتْبَعُنِي الْكَلاَمُ وَيَنْتَصِبُ أَمَامِي رَاقِصاً صَارِخاً مُعَرْبِداً، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ مَعَ يَدِي إِلَى فُنْجَانِ الْقَهْوَةِ، وَيَرْتَشِفُ مِنْهُ بِارْتِشَافِي، وَإِذَا تَنَاولْتُ لِفَافَةً يَتَنَاوَلُهَا مَعِي، وَإِذَا رَمَيْتُ بِهَا رَمَاهَا مَعِي أَيْضاً.
أقومُ للعملِ فيلحقُ بي الكلامُ مُوَسْوِساً في أُذُني، مُهَمْهِماً حَوْلَ رَأسي، مُقَرْقِعاً في خَلايا دِمَاغي، فأُحاولُ طَرْدَهُ فَيَضْحَكُ مُقَهْقِهاً، ثم يَعود إلى الوَسْوَسَةِ والْهَمْهَمَةِ وَالْقَرْقَعَةِ.
أخرجُ إلى الشارعِ فأرى الكلامَ واقفاً في بابِ كُلِّ حانوتٍ، مُنْبَسِطاً على جدرانِ كل منزلٍ، أراهُ في أَوْجُهِ الناسِ وهم صَامتونَ، وفي حَرَكَاتِهم وسَكَنَاتِهم وهم لا يَدْرُونَ.
إِنْ جَالَسْتُ صديقِي يكونُ الكلامُ ثَالِثُنَا، وإن الْتَقَيْتُ بِعَدُوِّي ينتفخُ الكلامُ إِذْ ذَاكَ ويَتَمَدَّدُ، ثم يَتَجَزَّأُ متحولاً إلى جَيْشٍ عَرَمْرَمٍ أَوَّلُهُ مشارقُ الأرضِ وآخرهُ مغاربُها، فإذا غَادرتُهُ هارباً ظَلَّ صَدَى كلامِهِ يتمايلُ مُخْتَبِطاً في بَاطِنِي اختباطَ طعامٍ لا تَهْضُمُهُ الْمَعِدَةُ.
أذهبُ إلى المحاكمِ والمعاهدِ والمدارسِ فأرى الكلامَ وأباهُ وأخاهُ وهم يُلَبِّسُونَ الكَذِبَ رِدَاءً، والاحْتِيَالَ عِمَامَةً وَحِذَاءً، ثم أسيرُ إلى المعملِ وإلى المكتبِ وإلى الإدارةِ فأجدُ الكلامَ واقفًا بين أمهِ وعمتهِ وجدتهِ، وهو يُقَلِّبُ لسانَهُ بين شفتيهِ الغليظتينِ وَهُنَّ يَبْتَسِمْنَ له ويَضْحَكْنَ مِنِّي.
وإذا بَقِيَ لي شيء من الْعَزْمِ والتَّجَلُّدِ، وَزُرْتُ المعابدَ والهياكلَ، رأيتُ هُناكَ الكلامَ جالساً على عرشِهِ وهو مُتَوَّجُ الرأسِ وفي يَدِهِ الصَّوْلَجَانُ دقيقُ الصُّنْعِ لطيفُ الجوانبِ ناعِمُهَا، وعندما أعودُ في المساءِ إلى غُرفتي أجِدُ الكلامَ الذي سَمِعْتُهُ سَحَابَةَ نهاري مُتَدَلّيّاً كَالأَفَاعِي مِنْ سَقْفِهَا، مُنْسَلاًّ كَالعَقاربِ في قَرَانِيهَا.
الكلامُ في الفضاءِ وما وراءَهُ، وعلى الأرضِ وتحتهَا، الكلامُ على أجنحةِ الأثيرِ، وفي أمواجِ البحرِ، وفي الغاباتِ والكهوفِ، وفوقَ قِمَمِ الجبالِ، الكلامُ في كلِّ مكانٍ! 
فإلى أين يذهبُ من يريدُ الهدوءَ والسكينةَ؟ أيوجدُ في هذا العالمِ طائفةٌ من الخُرْسَانِ لأنتمي إليها؟ هل يرحمني الله ويمنحُني مَوْهِبَةَ الطَّرَشِ، فَأَحْيَا سعيدًا في جَنَّةِ السُّكُونِ الأَبَدِي؟ أليسَ على وجهِ البَسِيطَةِ قُرْنَةٌ خاليةٌ من شَقْشَقَةِ اللِّسَانِ وبَلْبَلَةِ الأَلْسِنَةِ، حيث الكلامُ لا يُباعُ ولا يُشْرَى، ولا يُعْطَى ولا يُؤْخذُ؟ ليت شعري أَبَيْنَ سُكَّانِ الأَرْضِ مَنْ لاَ يَعْبُدُ نَفْسَهُ مُتَكَلِّماً؟ هل يوجد بين طغماتِ الخلقِ من لم يكنْ فَمُهُ مَغَارَةً لِلُصُوصِ الأَلْفَاظِ؟
ولو كان المتكلمون نوعًا واحدًا لرضِينَا وتَجَلَّدْنَا، ولكنهم أنواعٌ وأشكالٌ لا عِدَادَ لها، فهناك طائفةُ المُسْتَضْعَفِينَ الذين يعيشون في المستنقعاتِ النهارَ وطولَهُ، وعندما يجيءُ المساءُ يقتربون من الشواطئ رافعين رؤوسهم فوق سطح الماء، مُفْعمِينَ صدر الليل بضجيج قبيح تأباه المسامعُ والأرواحُ. 
وهناك طائفة المُسْتَبْعَضِينَ والبعوضُ من مُوَلَّدَاتِ المُسْتَنْقَعَاتِ أيضًا، وهم الذين يرفرفون حول أذنك بنغمةٍ تافهةٍ رفيعةٍ شيطانيةٍ صَدَاهَا النِّكَايَةُ ولُحْمَتُهَا البَغْضَاءُ. 
وهناك طائفة المُسْتَطْحِنِينَ وهي طائفة غريبة في داخل كل فرد من أفرادها حَجَرٌ يُدَارُ بالكُحُولِ، فَيُوَّلِدُ جَعْجَعَةً جَهَنَّمِيَّةً أَخَفُّهَا أثقلُ مما تحدثه حجارَةُ الرِّحَى. 
وهناك طائفة  المُسْتَبْقِرِينَ وهم الذين يملأون أجوافهم حشيشًا، ثم يقفون على منعطفاتِ الشوارعِ والأزقةِ، مبطنين الهواء بِخُوَّارٍ ألطفهُ أغلظُ من خُوَّارِ الجاموسِ. 
وهناك طائفة الْمُسْتَبْوِمِينَ وهم الذين يصرفون الساعات بين مقابر الحياة وأجداثها، محولين سكينةَ الدُّجَى إلى عويلٍ أَفْرَحُهُ أَحْزَنُ من نَعِيبِ البُومِ. 
وهناك طائفةُ الْمُسْتَنْشِرِينَ وهم الذين لا يرون من الحياةِ إلا أخشابها فيصرفون الأيامَ بتجزئتها وتفصيلها مُحْدِثِينَ بذلك خَشْخَشَةً أعْذَبُها أَضْنَكُ مما تُحْدِثُهُ الْمَنَاشِيرُ. 
وهناك طائفةُ  الْمُسْتَطْبِلِينَ وهم الذين يقرعون نفوسهم بمطارقَ ضخمةٍ فيخرجُ من أفواههم الفارغةِ قَرْقَعَةٌ ألطفهَا أغلظُ من قَرْقَعَةِ الطُّبُولِ. 
وهناك طائفةُ الْمُسْتَعْلِكِينَ وهم الذين لا شُغْلَ لهم ولا عَمَلَ، فيجلسونَ حيثما يجدون مقعدًا ويمضغونَ الكلامَ ولكنهم لا يلفظونه. 
وهناك طائفةُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وهم الذين يَسْتَغِيبُونَ الناسَ، ويَسْتَغِيبُونَ بعضهم بعضًا، ويستغيبُونَ نفوسهم على غير معرفةٍ من نفوسِهم، ولكنهم يَدْعُونَ الاسْتِغَابَةَ باسمِ المجونِ، والمجونُ ضَرْبٌ من الجد ولكنهم لا يعلمون. 
وهناك طائفةُ الأَنوَالِ التي تحوك الهواء بالهواء، ولكنها تظل هي بدون قمصان ولاسراويل. 
وهناك طائفة الزَّرَاِزيرِ التي قال عنها الشاعر:
لَمَّا حَامَ حَائِمُهَا تَوَهَّمَتْ      أَنَّهَا   صَارَتْ   شَوَاهِينَا
وأنا أقول عنها:
وَفِي  الزَّرَازِيرِ جُبْنٌ  وَهْيَ  طَائِرَةٌ     وَفِي الْبُزَاةِ  شُمُوخٌ وَهْيَ تَحْتَضِرُ
وهناك طائفةُ  الأجْرَاسِ وهي تدعو الناسَ إلى الهياكلِ ولكنها لا تدخلُها. 
وهناك طوائفٌ وعشائرٌ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى ولا تُوصَفُ، أغربها في عقيدتي طائفةٌ نائمةٌ  تملأُ الفضاءَ غطيطًا ولكنها لا تدري.
والآنَ وقد أَبَنْتُ بَعْضَ قَرَفِي واشْمِئْزَازِي من الكلامِ والمتكلمينَ، أَرَاني كالطَّبِيبِ الْمُعْتَلِّ، أو كَمُجْرِمٍ يَقِفُ واعظًا بين الْمُجْرِمينَ، فقد هَجَوْتُ الكلامَ ولكن بالكلامِ، وتَطَيَّرْتُ من المتكلمينَ وأنا واحدٌ من المتكلمينَ، فهل يَغْفرُ الله ذَنْبِي قُبَيْلَ أن يَرْحَمَنِي ويَنْقُلَنِي إلى غَابَةِ الفِكْرِ والعَاطِفَةِ، وأَلْحَقُ حَيْثُ لاَ كَلاَمَ وَلاَ مُتَكَلِّمِينَ. 
الكلام وطوائف المتكلمين في مؤلف العواصف لجبران خليل جبران
هوامش:
نَعِيبٌ: صَوْتُ البُومِ (البُومَةِ)
غَطِيطاً: شَخِيراً
شَوَاهِينَا: صُقُوراً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق