معنى الجحود

"نُكْرَانُ الْجَمِيلِ خِيَانَةٌ لِلشَّرَفِ وَالأَمَانَةِ" الكاتب الفرنسي فرانسوا دو لاروشفوكو
معنى الجحود
يمكن للمرء السوي أن يغفر كل شيء إلا الظلم والجحود واللاإنسانية، وللجحود طلبات ورغبات وأمنيات لا تنتهي، تأتي تباعا بسلاسة وسهولة عز نظيرها، وغالبا ما يحصل الجحود على ما يريد وأحيانا أكثر مما توقع بدون خجل أو وجل،  ثم ما يلبث أن يَلْقَى بديلا فيقوم يتغيير وجهته ومعطفه وعواطفه ويتناسى سريعا تاريخه، بدون أن يشعر بوخز ضمير أو ندم، وكيف لرذيلة تصيب النفوس الحقيرة أن تحس بالندم؟ غير أن أبغض الجحود والأكثر شيوعا في العصر الحاضر والذي يدمر الأنفس العزيزة تدميرا  هائلا هو جحود الأبناء لآبائهم، أما أقسى درجات الجحود فهي عندما تكرم الدول الأدنياء والمتملقين والنصابين والنهابين والتفاهات وتتنكر للشرفاء والأمناء والصادقين والمخلصين والكفاءات، والتاريخ نفسه قد مُلئت أسفاره بكل أنواع الجحود البشري، وكم من الأناس الأخيار الطيبين  قَرَأْتُ أنا بنفسي على شواهد قبورهم عبارة 'الجحود البشري' القاسي بدل أسمائهم وتواريخ وفاتهم وعبارات الترحم على أرواحهم.
لطالما صادفت الجحود مرارا وتكرارا في طريقي المغبر على دروب الحياة المتشعبة الصعبة الشاقة المضنية، وكلما حملقت جيدا في عينيه الصغيرتين الضيقتين الماكرتين المرتبكتين، وجبهته الناتئة، وحاجبيه المعقوفين المتلاقيين فوق أنفه الحاد كالإبرة، وشفتيه الرقيقتين كعود الثقاب، أدركت جيدا اجتماع علامات الانتهازية والدناءة واللؤم والسفالة والسلاطة والغذر والخذلان، وحاولت تجنبه وتجنب الحديث معه، غير أنه كان يَتَمَسْكَنُ وَيَتَمَظْهَرُ أمامي بالطيبوبة واللطف والخلق والتدين، فأشفق لحاله ومظهر ضعفه، ثم ما ألبث أن أخفض له من جناح الذل من الرحمة والطيبوبة فأنصت إليه، فيبدأ بحديثه الذي لا ينتهي ولا تنتابه استراحة أو انقطاع، يجول بي في كل ركن من أركان العالم، ويحدثني عن جميع أخبار الأسر والأمم، ابتداء من الطعام وانتهاء بالحمام، وخلال سرده الممل الرمادي الطويل كان يسرق نظرة خاطفة ماكرة في أي سهو مني يستطلع من خلالها هل أينعت رأسي وحان قطافها أم لا زال في العمر بقية.
ومن طبيعتي أو ضعفي -لا أدري- أنني أكره طول المقدمات وكثرة الثرثرة والزواق والنفاق، لذا كنت أحدث الجُحُودَ بنبرة حازمة وصارمة ولطيفة في نفس الوقت، وألح عليه أن يلج إلى صلب الموضوع ويختصر في حديثه قدر الإمكان، فأراه يتبرم ويحاول أن يختلق أعذارا واهية أقواها أقبح من ألف زلة، وكأن به يحاول إخماد نار لم يشعلها بعد، ويمضي الوقت سريعا ويزداد حنقي وغضبي على هذه الآفة بمقدر ما تزداد صفاقتها وثرثرتها التي لا فائدة تُرْتَجَى منها. 
فأعزم في الأخير وأتوكل على الله وأقول للجحود في عينيه الضيقتين الماكرتين: ماذا تريد؟ أتريد واحدة من هذه الأشياء التافهة التي تظنني أنني أمتلكها، وما أنا بمالكها بل هي التي تمتلكني؟ هيا خذ منها ما تريد وبقدر ما تريد وخلصني من استعبادها لي، أو لعلك محتاج لبعض المال تسد به نهمك ونزواتك ورغباتك التي لا تنتهي؟ فينقطع فجأة عن الكلام ويُصاب بالخرس التام ويحرك فقط رأسه، فأناوله ما جاء لطلبه وأقطع منه رجائي ولا أعول عليه أبدا، وأنا أردد في قررة نفسي: "اللهم لا توقفني على باب أحد من خلقك أبدا، واحفظني في حياتي واسترني في مماتي، واحفظ لي ديني وعرضي وعزتي وصحتي ومعاشي ما حييت، ويسر لي أمري وارزقني من حيث لا أحتسب"،  لذلك ما خابت أبدا فراستي في الجحود الذي عمر الدنيا وعشش في قلوب الناس وامتد إلى عقولها وخربها، وما عَلَّقْتُ عليه آمالا أو قضاء مصالح ومآرب بالمقابل،  وما انتظرت منه يوما مطلقا رده للجميل.
وبمجرد قضاء مصالحه ومطامعه يعود الجحود من حيث أتى وقد أصاب غنيمته كما يُتَصَوَّرُ له، وينساني وينسى أصلي ومفصلي وعشيرتي وقبيلتي، كما أُصِرُّ أيما إصرار أنا الآخر على أن أنساه وأنسى عقيدته وجنسيته وأصله ومفصله، ولا يظهر الجحود مرة أخرى أمامي إلا عندما يشعر أن غنيمته السابقة التي حازها مني قد تقادمت وطواها نسيان الذاكرة والزمان، وبأن رأسي قد أينعت وحان قطافها مرة أخرى، في تعبير صارخ على أن ليس هنالك شيء أقسى وأخطر من جحود بني البشر.    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق