موازين الأرض وميزان السماء

إِذَا  كَانَ  الْغُرَابُ  دَلِيلَ  قَوْمٍ     يَمُرُّ بِهِمْ عَلَى جِيَفِ الْكِلاَبِ
موازين الأرض وميزان السماء
كان (الحاج) محمد ثريا من وجهاء القوم يمتلك مصارف ربوية وحانات وعلب ليلية ومواخير بمدينة كانت في مضى من الأزمان منبت الرجال الأحرار، وكان جمع المال دأبه وديدنه وربه الذي يعبده آناء الليل وأطراف النهار، يلتمسه في كل وجه ويتأتى له من كل باب، فكان معظم أوقاته عاكفا على دفاتره وأرقامه وهواتفه الكثيرة والمتنوعة من طلوع الشمس إلى غروبها، ومن أجل تنمية مشاريعه والزيادة في ثروته لم يكن يتوانى في اقتراف كل الآثام والموبقات والمنكرات معتبرا ذلك شطارة وذكاء ونجاحا في أعماله.
وللتمويه والتغطية على منكراته وآثامه كان (الحاج) محمد يتظاهر دائما أمام الناس بالتدين والورع والبر والإحسان، فقد جعل نقوش جدران قصره من الداخل مزينة بآيات من القرآن الكريم، وقام ببناء العديد من المستشفيات والمعاهد والمساجد في الكثير من المدن والقرى، وبذلك احتال على الناس حتى أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء عليه في كل المناسبات، ولا تسمع من المتملقين منهم إلا 'سي (الحاج) رجل الله يعمرها دار'.
كان (الحاج) محمد من أعيان المدينة وأثريائها، ولما كان لم يعترض قط على أدنى قرار مجحف من قرارات الحكومة التي لا تعبأ بآلام المستضعفين، ولم يحسن قط ابتغاء وجه الله إلى امرئ من طبقة المستضعفين والفقراء، تلكم الطبقة التي كانت موضع اضطهاد واحتقار ونكاية من طرف المترفين وعلية القوم من الحكام وأهل الحل والعقد من رجال الدولة، لذلك ظلت له في عيون هؤلاء تلكم المكانة العليا التي رفعته إليها ثروته العظيمة.
في إحدى الليالي الشتوية بينما هو راجع إلى قصره، اعترضت سيارته طائفة من الشحاذين بأطمارهم وأسمالهم الرثة البالية، يبسطون إليه أكفهم طلبا للمساعدة، فنزل من السيارة وانهال عليهم زجرا ونهرا وشتما، غير أن الجوع الذي بلغ في هؤلاء مداه جعلهم يلحون عليه طلبا لمد العون، وفيما هو منكب على الأرض يلتمس بعض الحصى لرمي هؤلاء الشحاذين، ظهر أحد خدامه يحمل سلة مملوءة بالخبز الأسمر، فأومأ (الحاج) محمد للخادم أن يتقدم نحوه، ثم ضرب بكلتا يديه في السلة وبدأ يقذف هؤلاء البؤساء الجياع بأرغفة الخبز الأسمر تحت جنح الظلام.
ثم مضى بعد ذلك (الحاج) محمد متبخترا مزهوا ماشيا في الأرض مرحا إلى قصره، واستسلم لنوم عميق، وأثناء نومه أصيب بنوبة قلبية ومات على الفور، فإذا به يجد نفسه في الآخرة يوم الحساب، يوم لا تـَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله،  فإذا به أمام مَلَكٍ يتلألأ وجهه بهجة وبهاء في باقة من النور الذي كان ينبعث من جميع ذرات جسمه، وكان بين يديه ميزان، فبدأ الـَملَكُ على الفور يملأ  كفة الميزان بالذهب والماس والياقوت والزمرد، فتذكر (الحاج) محمد أنها كانت لأرملة رهنتها عنده على قرض عجزت عن سداده، فاستولى على ثروتها ظلما وعدوانا، ثم أبصر في كفة الميزان عددا كبيرا من مصوغات أخرى كانت لأناس ممن سلبهم وسرقهم ونهبم، وقطعا من الذهب مما استولى عليه عن طريق الغش والخديعة والتدليس، فأدرك صاحبنا أن الـمَلَكَ إنما يزن أعماله في الحياة الدنيا فصاح: «رحمة يا سيدي. .رحمة يا سيدي الـمَلَكُ، إن كنت-بالذي خلقك فسواك مَلَكاً-قد وضعت بإحدى كفتي الميزان ما كسبت في حياتي من أموال ومن حطام الدنيا، فلتضعن في الكفة الأخرى المستشفيات والمعاهد والمساجد التي شيدتها على نفقتي، وصلاتي وصومي وحجي وهي دليل على ورعي وتقواي، قال الـمَلَكُ: "لا تخف يا محمد، والله لن أظلمك في حبة خردل، طِبْ نفسا واعلم أني لا أنسى شيئا البتة"، ثم إنه مد يده السماوية فتناول المستشفيات ووضعها في الكفة فلم تغن شيئا، فصاح (الحاج) محمد:" والمعاهد.. المعاهد"، قال الملك: «على رسلك، لا تعجل"، ثم وضع الـمَلَكُ المعاهد في كفة الميزان فلم تهبط قيد أنملة، ففزع (الحاج) محمد فزعا عظيما وقال: «مهلا مهلا سيدي الـمَلَكُ، لقد نسيت المساجد والحج والصوم والصلاة"، فأخدها الـمَلَكُ ووضعها في كفة الميزان، غير أن الكفة لم تتحرك مطلقا، فشعر (الحاج) محمد بعرق بارد يتصبب على جبينه فصاح: «سيدي الـمَلَكُ، أواثق أنت من أن ميزانك ليس به خلل؟"، فأجاب الـمَلَكُ متبسما:" إن هذا الميزان ليس مثل الذي عهدته في حياتك الدنيا من موازين المطففين والمحتالين والسماسرة واللصوص والمرتشين والمرابين والمزورين والظلمة والمستبدين والفاسدين، إنه الميزان العادل والقسطاس المستقيم"، فتنهد (الحاج) محمد وقد شحب وجهه وامتقع لونه ثم قال:" يا ويلتي..يا مصيبتي المستشفيات والمعاهد والمساجد والحج والصوم والصلاة كلها لا تساوي جناح بعوضة"، فقال الـمَلَكُ: «قد ترى بعيني رأسك حسناتك النزرة الطفيفة ترجح على سيئاتك الكثيرة الكثيفة"، فصاح (الحاج) محمد: «لأذهبن إذن إلى جهنم"، فرد وازن الأرواح: «مهلا يا محمد ..مهلا نحن لم ننته بعد، فقد بقي شيء آخر".
فمد الـمَلَكُ يده فتناول أرغفة الخبز الأسمر التي قذف بها البارحة (الحاج) محمد إلى الشحاذين الجياع، ثم وضعها على الكفة، فإذا بها تهبط وتعلو الأخرى حتى استويتا، واعتدل لسان الميزان في الوسط لا إلى اليمين ولا إلى الشمال، وبهت الخاج محمد وهو لا يكاد يصدق عينيه، فقال له الـمَلَكُ: «تأمل يا محمد قد ترى نفسك أنك لا تصلح لنار ولا لجنة، انْطَلِقْ فارجع إلى بلدك، وضاعف بها ما تصدقت به البارحة من الأرغفة دون رياء ولا علو في الأرض تحت جنح الظلام ولم يطلع عليك إنسان، وبذلك لا بغيره ستنجو من النار، لا تيأس من رحمة الله، وتيقن بأن الله عنده من العفو والغفران ما يسع حتى الأغنياء".
وهنا استيقظ (الحاج) محمد في فراشه، فأبرم عزيمته وعقد نيته على اتباع نصيحة المَلَكِ العظيم بمضاعفة البر والإحسان للفقراء وترك جميع الكبائر والموبقات والآثام هربا من النار وتدرعا إلى الجنة، ولم يمكث (الحاج) محمد على وجه الأرض سوى ثلاثة أيام بعد موتته الأولى كان فيها مثالا للبر والإحسان بعيدا عن الرياء والمظاهر الخادعة والتدين المغشوش..وعند ربكم تختصمون.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق