معظم سكان الأرض تعساء لأنهم فتحوا أعينهم رغما
عنهم في أوطان أُعِدَّتْ عن سابق إصرار وترصد من طرف النخب للتحكم في هؤلاء
التعساء، فعاش الناس على إيقاع هذه الحياة التعيسة المتمثلة في ثلاثة أعمال متكررة
يوميا مملة وروتيبة من المهد إلى اللحد، وهذه الأعمال تتجلى فيما عبر عنه الشاعر
والروائي والصحفي والناقد الأدبي الفرنسي بيير بيرن Pierre Béarn (2004-1902) سنة 1968 بجملته المدوية Métro ، Boulot Dodo ،، والتي تعني "مترو الأنفاق، عمل، نوم"، كل ما تغير منذ ذلك
الحين إلى اليوم هو أن التعساء الذين اشتروا سيارات بواسطة سلفات بنكية ربوية في
الوقت الراهن-كي يُظهروا كذبا وبهتانا مدى رفاههم وسعادتهم- لم يعودوا يستقلون
مترو الأنفاق، إلا أنهم أصبحوا عبيدا للأبناك.
لقد صارت حياة معظم سكان
هذا الكوكب حياة تعيسة وتافهة ورتيبة وعبثية تتوقف فقط على استخلاصهم للضرائب
والرسوم الكثيرة والمتنوعة، وأداء خدمات الماء والكهرباء والهاتف والصرف الصحي
والإعلام العبثي التضبيعي (نسبة إلى الضبع)، وهلم جرا من الأعباء والأحمال التي تفرضها النخب المتحكمة بناصية
هذا العالم المريض جدا، حيث يخوض المترفون على الفقراء والمهمشين التعساء حروباً
ضروساً يومية فتاكة بواسطة سلاح المال، الذي كان من الأجدر أن يكون وسيلة للتبادل
والتكافل والتضامن بين الناس، عوض أن يضحي غاية في حد ذاتها وإلاها مقدسا معبودا
من طرف النخب الحاكمة.
لقد
فاز المال لحد الآن في تنافسه مع الأديان من أجل الوصول إلى العالمية بالنقط وليس
بالضربة القاضية كما كان يبتغي المترفون، فسبغ عليهم علامات الرقي الاجتماعي
والنجاح الشخصي والأبهة والتفرعن، وصار المال لدى هؤلاء المترفين -الذين إذا أراد
الله أن يهلك قرية أمرهم ففسقوا فيها-أداة للهيمنة على الأكثرية من التعساء، وهدفا
وحيدا منشودا للعيش والإثراء بالطرق المشروعة وأحيانا حتى الغير مشروعة.
وأصبح المال الذي يحلم
به في النوم واليقظة المحرومون منه سلاح دمار شامل، والأقلية التي تستحوذ عليه تخوض
حروبا ضد الأكثرية من التعساء على جميع الجبهات في آن واحد، ابتداء من هضم الحقوق
الاجتماعية، مرورا باغتصاب ما يسمونه بهتانا بالديمقراطية، ورفسا على الطبيعة
والبيئة وباقي المخلوقات الأخرى، ووصولا حتى إلى تحطيم كل القيم والأخلاق الإنسانية والنظم الاجتماعية.
فالنيوليبرالية ذات
البنية الأوليغارشية المستبدة-التي تأيد اقتصاد عدم تدخل الدولة، وتعمل ليل نهار
على تقزيم وتقليص خدمات القطاع العام إلى أدنى مستوى، والسماح بأقصى حرية في
السوق، وتفضيل وتشجيع الاستثمار الخاص على الاستثمار العام لأنه حسب
ادعائها أقدر وأكفأ وأكثر إدرارا للربح- أضحت اليوم تتحكم في جميع مظاهر
حياة المجتمعات التعيسة، وتمكن فكرها الوحيد المستبد من جَرْفِ الشرخ ما بين قوى
اليمين واليسار، وسَحْقِ الطبقة المتوسطة وطحنها طحنا ومحوها من الوجود، ولم يتبق
سوى الطبقتين السفلى والعليا يفصل بينهما برزخ لا يمكن اختراقه، وتم تحويل صراع
الطبقات إلى عنف غير مرئي وغير مسموع ولا يمكن وصفه، وهكذا تكونت أرستقراطية جديدة
من أصحاب الأموال تتوالف وتتواءم مع أرستقراطية أصحاب السلطة كما يتوافق شن مع
طبقة.
وفي ظل تواطئ المال
والسلطة على التعساء في مجموع دول العالم بدون استثناء، تم تكريس غسل
الأدمغة بواسطة آلة الإعلام الجبارة، مما سهل استدامة القهر والتفقير والتهميش
وعدم المساواة من خلال نظام اقتصادي فاشل، مفلس وفاسد، قائم على الاحتكار والمكر
والحيلة والخديعة والتدليس و(القوالب)، ويتجلى ذلك على سبيل الذكر لا الحصر في وضع
قوانين وتشريعات في غياب تام للأكثرية من المواطنين التعساء لا تخدم
سوى مصالح أقلية من المترفين والأثرياء، الذين
يتهربون حتى من استخلاص الضرائب التي في ذمتهم من خلال التقليل قدر
الإمكان من الأعباء الضريبية المفروضة عليهم، في حين تُعصر هذه الضرائب عصرا
من التعساء حتى تجفيفهم، ويصل الظلم مداه عندما لا يوفي هؤلاء
المترفون العمال من التعساء المقهورين المسْتَغَلِّينَ أبشع استغلال حقوقهم
المتجلية في الأجر العادل الذي يضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم ويحفظ
كرامتهم، ويوفر التغطية الصحية لهم ولأسرهم، ويضمن لهم التأمين عن حوادث الشغل،
ويمنحهم معاشا للتقاعد منصف وكاف حتى يتم تجنيب هؤلاء التعساء عيشة الذبانة
فالبطانة فيما تبقى من حياتهم.
في مؤلفه تحت عنوان
"عولمة الفقر" يكشف الاقتصادي الكندي ميشيل تشوسودوفيسكي Michel Chossudovsky عن عدد
من السياسات التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي
منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، والتي لم تعمل في الواقع إلا على إعادة فرض
سياسات الأنماط الاستعمارية القديمة وترسيخها، ولكن هذه المرة بقفازات حريرية
ناعمة، والعمل بكل قوة على إفشال أي مشروع لإرساء ديمقراطية حقيقية تنبع من القاعدة الشعبية، ومنع أي
تخطيط وطني جاد، صادق، ذو مصداقية وعادل بين جميع أطياف المجتمع.
كما كشف ميشيل
تشوسودوفيسكي من خلال مؤلفه هذا عن نظام مالى جديد يتغذى على الفقر والبؤس
الإنساني، وعلى تدمير البيئة الطبيعية والنظم الإيكولوجية، وعلى خلق الكثير من المشاكل العويصة
كالعزلة الاجتماعية، وتنامي العنصرية، والنزاعات الطائفية والعرقية، وتسليع وتبخيس قيمة أي شيء على وجه الأرض.
ويوضح هذا الاقتصادي
على أن عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية التي يفرضها الدائنون الدوليون على
بلدان العالم المستضعفة التعيسة، والتي تستند على خطاب نيوليبرالي مخادع
وأفاك أدت في نهاية المطاف إلى تفكيك المؤسسات العمومية لتلك الدول التعيسة، وتقويض
اقتصادها بإغراقه في بحر عرمرم من الديون التي لا يقوى على الوفاء بآدائها، وإفقار الملايير من المستضعفين التعساء إلى الأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق