قيمة الصمت المعرفية وعمقه الوجودي

 "عِنْدَمَا يَتَحَدَّثُ شَخْصَانِ إِلَى بَعْضِهِمَا، فَهُنَاكَ عَلَى الدَّوَامِ ثَالِثٌ يُصْغِي، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّمْتُ" الفيلسوف ماكس بيكارد (1888-1965)

قيمة الصمت المعرفية وعمقه الوجودي

قبل خلق الكلمة، احتل الصمت كل شيء، تنتسب الأرض إلى الصمت كما لو أنها كانت قائمة على الصمت وفوقه، إنها حافة الصمت فحسب، ثم جاءت الكلمة، من غابة الصمت البدائية خلال الروح الموجودة في الكلمة نهضت أرض الصمت الودود التي تُغَذِّي الْكَلِمَةَ وَتَحْمِلُهَا.
يخرج الإنسان الذي لا تزال طبيعته مسكونة بالصمت من الصمت إلى العالم الخارجي، فالصمت مركزي في الإنسان، في عالم الصمت لا تكون الحركة مباشرة من إنسان إلى آخر، بل من الصمت في إنسان إلى الصمت في آخر.
يبدو الناس في لوحات الرسامين المتميزين القدماء كما لو أنهم خرجوا للتو من فتحة في جدار، كما لو أنهم قد شقوا طريقهم بصعوبة، يبدون غير آمنين ومترددين لأنهم ابتعدوا إلى مسافة بعيدة جدا، ومع ذلك ينتسبون إلى الصمت أكثر من أنفسهم، إنهم يتوقفون وينتظرون ظهور فتحة جديدة أمامهم كي يتمكنوا من العودة ثانية من خلالها إلى الصمت.
لم يعد الفرد يواجه في العالم المعاصر الصمت، لم يعد يواجه المجتمع، بل يواجه الضجيج العام فقط، الفرد يقف بين الضجيج والصمت، لقد عُزِلَ عن الضجيج وَعُزِلَ عن الصمت، إنه وحيد وبائس.
الإنسان الذي لا يزال يملك في نفسه جوهر الصمت لا يحتاج مراقبة حركات وجوده الباطني دائما، ولا يحتاج أن يرتب كل شيء بوعي دائما، لقد تم ترتيب الكثير من دون معرفته الواعية بواسطة قوة جوهر الصمت، التي يمكنها تخفيف التناقضات المتحاربة في الباطن.
ما يقع في جوهر الصمت هو الحصة التي يملكها الصمت في أشياء الحياة الإنسانية التي لا تزال جزءً من الصمت، يُخْفِي الإنسان في المحادثة بعض الأحيان شيئاً ما في داخل نفسه، إنه لا يَسْمَحُ لهذا الشيء أن يَظْهَرَ في كلمات، كما لو أنه يشعر بأن عليه أن يُبْقِي شيئا ما يعود حقّاً إلى الصمت.
لا شيء يُوقِفُ التدفق الطبيعي للحياة العادية بقدر ما يفعله الحب، لا شيء يُعِيدُ العالم إلى الصمت أكثر من الحب، خلال الصمت الموجود في الحب يتم انتزاع اللغة من عالم الصَّخَبِ والضَّجِيجِ اللفظي وتُعاد إلى أصلها في الصمت، العشاق هم أقرب إلى بداية كل الأشياء وقت كانت اللغة غير مخلوقة بعدُ.
الزمن مبعثر مع الصمت، تمضي الأيام واحدا تلو الآخر بصمت، يظهر كل يوم من دون ملاحظة كما لو أنه أنزله الله للتو من سكونه، تمر الأيام خلال السنة بصمت، إنها تمضي على إيقاع الصمت، تمضي الفصول بصمت خلال العام المتغير، لا يأتي الربيع من الشتاء إنه يأتي من الصمت الذي يأتي منه الشتاء والصيف والخريف.
العلاقة مع الأشياء خلال الصمت هي علاقة دائمة، لكن الصلة عَبْرَ الكلمة تكون مرتبطة باللحظة، لكنها لحظة الحقيقة التي تظهر في الكلمة، وتلك هي لحظة الخلود، إن صمت الطبيعة دائم، إنه الهواء الذي تتنفس به الطبيعة، حركات الطبيعة هي حركات الصمت، تَبَدُّلُ الفصول هو إيقاع الصمت، تكون طريقة تَغَيُّرِ الفصول محجوبة بالصمت، صمت الطبيعة هو الحقيقة الأساسية، تخدم أشياء الطبيعة لجعل الصمت مرئيا بوضوح فحسب، أشياء الصمت هي صورٌ للصمت.
لم تعد الكلمة اليوم تخرج من الصمت خلال عمل الروح الإبداعي الذي يمنح معنى إلى اللغة وإلى الصمت، بل من كلمات أخرى، من صَخَبِ كلمات أخرى، ولا تعود إلى الصمت بل إلى ضجيج كلمات أخرى، لتصبح مغمورة هناك، فَقَدَتِ اللغة سِمَتَهَا الروحية، كل ما تبقى هو سِمَتُهَا السمعية المحضة، هذا هو تحول الروح إلى المادة، تحول الكلمة التي هي الروح إلى مادة الصَّخَبِ، ضجيجُ الكلماتِ هو الفراغ الْهَادِرُ الذي يغطي الْخَوَاءَ الْخَامِدَ.
الإصغاء ممكن فقط عندما يوجد هناك صمت في الإنسان، الإصغاء والصمت ينتميان إلى بعضهما، بدلا من الحديث بصدق إلى الآخرين اليوم، فإننا جميعا ننتظر فحسب أن نُفَرِّغَ على الآخرين الكلمات التي تَجَمَّعَتْ بداخلنا، لذا أصبح الكلام ذو وظيفة حيوانية إفرازية محضة، الضجيج اللفظي لا هو صمت ولا هو صوت، إنه يخترق الصمت والصوت على السواء، ويستدعي الإنسان كي ينسى كلاهما: الصمت والعالم، لقد كَفَّ أن يكون هناك أي اختلاف بين الكلام والصمت منذ أن اخترق ضجيج واحد من الكلمات المتحدث وغير المتحدث معا.
الضجيج اللفظي هو لغة كاذبة وصمت زائف، بكلمة أخرى شيء منطوق ومع ذلك فإنه ليس لغة حقيقية إطلاقا، شيء يتلاشى في الصمت ومع ذلك فإنه ليس صمتا حقيقيا، عندما يتوقف الضجيج فجأة لا يتبعه الصمت بل مجرد مُهْلَةٍ يتجمع فيها الضجيج لكي ينتشر بقوة أكبر عندما يتم إطلاقه.
يؤمن الإنسان-مع ذلك- الذي أصبح محض مُلْحَقٍ للضجيج اللفظي، على نحو متناقص بواقع وجوده الخاص، إنه ينظر إلى نفسه في ألف صورة على الشاشة وعلى الأوراق المصورة، كما لو أنه يحاول أن يتأكد أن الإنسان لا يزال موجوداً، لا يزال يشبه إنساناً.
في الضجيج اللفظي العام ليس للأعمال موطئ قدم اليوم، لا حدود، لا ضوابط، لأنها لم تُحْفَظْ في حدود مناسبة من قبل الكلمة، إنها في الحقيقة مغطاة بالضجيج من كل الجوانب، إنها تتلاشى في داخله، والأفعال الحققية قد كَفَّتْ عن الوجود. هذا هو العالم الذي يتحرك آليا مع الضجيج والعمل، إنه يبدو كعالم من سحر، لأن كل شيء يحدث فيه من دون قرار بشري، بمحض اختياره وإرادته، وهذا المظهر من السحر على وجه التحديد هو ما يُغْوِي الإنسانَ.
ضجيج الكلمات يُسَطِّحُ كل شيء، يجعل كل شيء متشابها: إنه آلة تَسْطِيحٍ، الفردية هي شيء من الماضي، كل واحد هو مجرد جزء من الضجيج، لا شيء ينتمي إلى الطريقة الفردية في الوقت الراهن، كَانَ كل شيء كَأَنَّهُ مُرَاقٌ في الصخب العام، لكل فرد الحق في كل شيء، لأن لا شيء ينتمي إلى أي أحد على وجه الخصوص، حَظِيَتِ الجماهير بمكانة خاصة، إنها مُكْمِلَةٌ للضجيج، وهي مثل الضوضاء.
كما لو كان ينبغي تدمير البقايا الأخيرة للصمت، كما لو أن أمراً قد صَدَرَ من أجل إحصاء بقية الصمت في كل شخص وفي كل بيت، من أجل أن تُسْتَأْصَلَ تلك البقية كعدو.
تجول الطائرات في السماء لأن الصمت عسكر خلف الغيوم، ضربات المراوح تشبه صفعات عديدة ضد الصمت. المدن الكبيرة تشبه خزانات ضجيج عملاقة، صُنِعَ الضجيج في المدينة مثلما صُنِعَتِ البضائع، المدينة هي المكان الذي يكون دائما في متناول اليد، مفصولة تماما عن الشيء الذي جاءت منه، الضجيج يُفَرِّخُ فوق المدينة وينزل على الناس والأشياء. لكن في الليل عندما تُطْفَأُ الأنوار تبدو الشوارع مثل أعمدة سقط تحتها الضجيج واختفى فيها، تغفو الناس والأشياء بصورة منهكة، كما لو أنهم لو يعودوا مملوئين بالضوضاء، الناس تطوف بمحاذاة البيوت كالظلال، وتبدو جدران البيوت مثل الجدران الأمامية لمقابر ضخمة متداعية وتالفة.
لا شيء غَيَّرَ طبيعة الإنسان بصورة كبيرة جدا مثلما فعل فُقْدَانُ الصمتِ، لا شيء غَيَّرَ الإنسان كهذا النقص في العلاقة بالصمت، هذه حقيقية على كون الصمت لم يعد بديهة كشيء طبيعي كالسماء التي فوقنا أو الهواء الذي نتنفس. الإنسان الذي فَقَدَ الصمت لم يفقد سِمَةً إنسانية واحدة فقط، بل تَغَيَّرَتْ كل بُنْيَتِهِ عبر ذلك. وفي عالم اليوم الذي كل شيء مُقَدَّرٌ فيه على أساس الربح المباشر، لم يعد هناك مكان للصمت، طُرِدَ الصمت لأنه غير مُنْتِجٍ مثل المشاريع التي تُدْرَسَ جَدْوَاهَا على أساس الربح فقط ولا شيء آخر غير الربح، لأن الصمت وُجِدَ فِطْرِيّاً في مُنتهى الطَّهارَةِ قبل الخلق، ولا يبدو أن لديه هَدَفاً انْتِهَازِيّاً مثل الكلام. نوع الصمت الوحيد الموجود اليوم تقريبا هو نتيجة لفقدان القدرة على الكلام، إنه صَمْتٌ سَلْبِيٌّ بِإِفْرَاطٍ: غياب الكلام، إنه يشبه فحسب عائقا تقنيا في التدفق المستمر للضجيج الذي سَمَّمَ بجرعات قاتلة  أجواء العالم.    
المدون بتصرف واسع عن "عَالَمُ الصَّمْتِ" للكاتب والفيلسوف السويسري الألماني ماكس بيكارد (1888-1965)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق