"كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا كَذِبٌ فِي كَذِبٍ.. أَنَا الْحَقِيقَةُ الْوَحِيدَةُ.. أَنَا حَقِيقَتِي الْمُؤَكَّدَةُ"
الفيسلوف الألماني فريدريك نيتشه
قال الناس قديما وما زالوا يقولون:
"أَعْذَبُ الأَدَبِ أَكْذَبُهُ"، وكان الناس قديما وما انفكوا إلى اليوم يُحَرِّمُونَ
الكذب في الحياة وَيَسْتَسِيغُونَهُ في الأدب، فالأديب الذي يكشف طوايا النفوس
ويستجلي خفاياها وَيَعْرِضُ الأمور كما هي ويصور الوقائع كما يراها، قلما يجد أدبه
رواجا ونفاقا بين الناس، أما ذلك الذي يَصْرِفُهُمْ عن واقعهم الذميم البئيس ويُنْسِيهِمْ وجودهم
الحقيقي فهو الأديب المبدع الرائع، فكأن الناس تواضعوا على تسمية الأدب بفن الكذب.
وليس في نيتي أن أزعم العكس وأدافع عن النقيض، وإنما أود أن أُلْفِتَ الأنظار إلى
عِلْمٍ قد لا يقل عن الأدب صدقا، والناس يطمئنون إليه، ويثقون به ويؤمنون بصحته
ويركنون إلى نصحه وموعظته، وهم يحسبون أنه سَفَرُ الحقيقة وَسِجِلُّ الواقع، أَلاَ
وَهُوَ عِلمُ التاريخ، فَإِذَا كَانَ الأَدَبُ فَنُّ الْكَذِبِ السَّافِرِ فَالتَّارِيخُ فَنُّ الْكَذِبِ الْمُسْتَتِرِ،
على أني لم آت بشيء جديد، ولم أُلْهَمْ هذه الحقيقةَ كما أُلْهِمَ أرخميدس،
فللتاريخِ منذ وُجِدَ التاريخُ مشايعون مناصرون كما له مُنَاوِئُونَ مُنَدِّدُونَ، وهؤلاء
وأولئك كثر.
ولعل من الخير أَلاَّ أفاجئك بادئ ذي بدء بأقوال الجادين الوقورين من
خصوم التاريخ والغامزين فيه، وأن أبدأك بِجِدِّ يُشْبِهُ الْهَزْلَ وهَزْلٍ يُشْبِهُ
الْجِدَّ حتى تتهيأ نفسك لما أريد أن أهيئها له.
لقد عُرِفَ الكاتب الأمريكي مارك
توين بأسلوبه الساتيري العابث في جميع ما يتناوله من مواضيع، وهو في دعابته
الناعمة المرحة وهزئه الساخر الضاحك يبلغ في قوة النقد ما لا يبلغه أولئك الذين
يتصنعون الجد والوقار فيجمعون إلى جفوة النقد خشونة الأسلوب، والكلمات التالية
مقتبسة عن محاضرة عنوانها: "فن الكذب في انحطاط"، يقول الكاتب مارك
توين أنه ألقاها على جمع مهيب من شيوخ المؤرخين وهم - على رأي الكثيرين - حَمَلَةُ
لواء الكذب الفني المرتب المشروع، وإنك مُسْتَنْتِجٌ من هذه الكلمات أمرين
جوهريين: أولهما أن الناس جميعا يكذبون في أعمالهم وأقوالهم، وثانيهما أن المؤرخين
عندما يدونون أعمال الناس وأقوالهم فهم لا يدونون إلا كذبا، ثم ليتهم يصدقون في
التسجيل والتدوين!.. إنهم يجمعون إفكاً على
إفكٍ وكذباً على كذبٍ.
يقول مارك توين: "لَسْتُ أَزْعُمُ أَنَّ عَادَةَ الْكَذِبِ
تُعَانِي ضُعْفاً أَوْ تَشْكُو انْحِطَاطاً، فَالْكَذِبُ هُوَ مَبْدَأٌ خَالِدٌ وَفَضِيلَةٌ
أَزَلِيَّةٌ، وَفِي الْكَذِبِ تَسْلِيَّةٌ لِلْمَكْرُوبِ وَعَزَاءُ لِلْعَانِي وَمَلْجَأٌ
أَمِينٌ لِلْبَائِسِ، إِنَّ الْكَذِبَ صَدِيقُ الإِنْسَانِ الأَوَّلِ وَرَفِيقُهُ
الأَمْثَلُ".
ولا خوف على الكذب من الزوال وأنتم في الوجود معشر المؤرخين،
وإن كنت أشكو فما أشكو سوى انحطاط فن الكذب، وأي إنسان رُزِقَ الكياسة في التفكير
والصدق في العاطفة يرى الكذب السَّمْجَ يُرَوَّجُ في عصرنا هذا ولا تأخذه سورة
الغضب وتثور به النخوة والمروءة؟! أي عاقل مهذب لا يسوءه هذا الفن الرفيع أن
يتبذل؟! وإذا عالجتُ أمامكم هذا الموضوع، فأنا أعالجه على تَهَيُّبٍ واستحياءٍ،
فأنتم معشرَ المؤرخين سَادةُ هذا الْفَنِّ وَأَشْيَاخُهُ.
ولست- أيها السادة- ممن يستبيح
لنفسه التعرض لَكُمْ بنقد، وإذا تراءى لكم شيء من ذلك في بعض حديثي، فما قَصَدْتُ النقد
أو المعارضة، وإنما أنا واثق بأني لم أقصد سوى التعبير عني الإعجاب والإكبار.
والحق
يُقال، أنه لو كان لهذا الفن - أجمل الفنون الجميلة - أنصار مخلصون مثلكم كثيرون،
يشجعونه ويرعونه ويغذونه ويمارسونه ممارسة دائبة صادقة، لو أُتِيحَتْ له أندية
كثيرة كناديكم هذا، لما اعتراني الجزع وغلبني الدمع، ولا أقول ذلك نفاقا، وإنما هو
الحرص على تقدير الناس حق قدرهم.
أيها السادة.. ليس ثمة شيء مؤكد من الحقيقة التالية:
هنالك ظروف يَتَحَتَّمُ فيها الكذب، وبما أنه ضرورةٌ مُحَتّمَةٌ فهو إذن فضيلةٌ
محمودةٌ، والفضيلة لا تُبْلِغُ الكذبَ مرتبة الكمال إذا لم تزودها ثقافة دائبة،
فلا حاجة إذن للقول بأن فضيلة الكذب يجب أن يَرْعَاهَا وَيَتَعَهَّدَهَا المعلمون
في المدارس والآباء في الأسر والمفكرون في الصحف والكتب، وأي حظ لكاذب جاهل مغفل
تجاه كاذب مثقف محنك؟ إن ما يعوزنا أيها السادة، هو كذب حاذق، بل يخيل إلي أنه خير
للإنسان ألاَّ يكذب مطلقا من أن يكذب كذبا غير موفق، إن كذبا أخرق غير علمي هو
غالبا شر من الصدق.
لنذكر المثل القديم السائر: "الصبيان والمجانين يقولون الحقيقة
دائما"، والنتيجة المنطقية تبعا لهذا المثل واضحة وهي أن الكهول والعقلاء لا يقولون الحقيقة
أبدا.
يقول المؤرخ الأمريكي الشهير فرنسيس باركمان: "مِنَ الْحَقَائِقِ الرَّاسِخَةِ
أَنَّ الْحَقِيقَةَ لاَ يُحْسَنُ أَنْ تُقَالَ دَوْماً، وَأَنَّ مَنْ يَدْفَعُهُمْ
ضَمِيرُهُمْ الْمَرِيضُ إِلَى مُخَالَفَةِ هَذَا الْمَبْدَإِ هُمْ حَمْقَى خَطِرُونَ"،
هذا هو الكلام المتزن المتين، فَلاَ أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ مَنِ اِعْتَادَ قَوْلَ الصِّدْقِ،
والحمد لله على أن كائنا مثل هذا غير موجود، فالإنسان الذي يقول الصدق دائما هو
مخلوق خَيَاليٌّ وخُرَافيٌّ لم يوجد ولن يوجد قط، ولا شك أن هنالك أفرادا يعتقدون أنهم
لا يكذبون قط، ولكنهم واهمون، وإن جهلهم الفادح تخجل منه مدينتنا الحاضرة.
كل الناس
يكذبون على بكرة أبيهم، في كل يوم بل في كل ساعة ودقيقة، نَائِمُونَ وَمُسْتَيْقِظُونَ، حُزَانَى وَفَرِحُونَ، مُعْدِمُونَ وَمثْرَفُونَ، جُهَالَى وَمُثَقًَّفُونَ، وإذا لم
ينطق اللسان -وما أدراك ما اللسان- فإن القلوب والعيون والأيدي والأرجل والوضع
العام السائد تسعى جميعها وتحاول دائما وباستمرار أن تَخْدَعَ وَتَكْذِبَ مع سابق الإصرار والترصد.
المدون بتصرف واسع عن:
مقال للأستاذ عزة النص تحت عنوان'فن الكذب' تم نشره
بمجلة المعرفة العراقية العدد الثاني بتاريخ 01 فبراير 1947
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق