تأملات من روائع ألفونس دو لامارتين

"الرَّبِيعُ بَسْمَةُ الطَّبِيعَةِ قَبْلَ أَنْ تَجُودَ بِعَطَائِهَا، إِذْ لاَ قِيمَةَ لِلْعَطَاءِ إِنْ لَمْ تُرَافِقْهُ بَسْمَةُ الرِّضَى" الموسيقار النمساوي العبقري المبدع موزارت
تأملات من روائع ألفونس دو لامارتين
إن قلبيَ الْمَكْلُومَ المتقطع رجائه حتى من الأمل، لن يُزْعِجَ الأقدار بعد الآن بابتهالاته كما كان يُزعجها من قبل، ولكن أيها الوادي، يا مأواي في أيام طفولتي، افْسَحْ لي مجالا ولو ليوم واحد فأعيش في ربوعك في انتظار الْمَنُونِ.
ها هي ذي الطريق الضيقة الْمُؤَدِيَّةُ إلى ذلك الوادي المظلم: هنا، في أحضان هذه الروابي، تقوم أشجار تلك الغابات الكثيفة، فَتُرْسِلُ ظلها على وجهي الشاحب، وَتَحُوطُنِي بسكون مُسْكِرٍ، وهناك جدولان ينسابان تحت جسور من الأعشاب الْمُخْضَوْضَرَةِ، فيرسمان في انسيابهما تعاريج الوادي ومنحدراته، وتراهما بين الفينة والأخرى، يمزجان تَمَوُّجَاتِهِمَا الفضية بألحان خريرهما العذبة، ثم يتلاشيان قريبا من المنبع، بعيداً عن أعين الناس.
وأيامي في انسيابهما أشبه بهذين الجدولين! فهي تمضي وتتلاشى دون أن يشعر بها الناس، ودون أن تُحْدِثَ ذلك الخرير العذب! أما نفسي الكئيبة الْمُلْتَاعَةُ فهيهات أن تعنى بحياة يوم جميل من أيام حياتي.
إن خمائل الوادي الحالمة بظلها المخيم، دفعتني لقضاء النهار كله على ضفاف جداولها، فنفسي الحساسة تغفو على أنغام خرير المياه، كما يغفو الطفل في مهده على صوت أمه الشادي.
هناك تحوطني الطبيعة بأسوار من العشب الأخضر، وبأفق محدود، لكنه فسيح لناظري، إنني أحب أن أثبت قدمي، وأن أبتعد عن الناس لأسمع خرير المياه، ولأتمتع برؤية السماء.
لقد رأيت في حياتي أموراً كثيرة، وشعرت بإحساسات جَمَّةٍ، وملأت أيامي عشقا، والآن جئت أستوحي الطبيعة في هدوئها الشامل.
أيتها الأماكن البهيجة الجميلة! كوني لي تلك الضفاف التي ينسى الإنسان بقربها كل شيء، فقد أصبح سر سعادتي في النسيان.
هنا يطمئن قلبي، هنا ترتاح نفسي، هنا تلفظ ضوضاء العالم البعيد أنفاسها الأخيرة كما يلفظ الصوت البعيد أنفاسه حين تبعد به الشقة قبل أن يصل مع النسيم إلى الأذن الْحَائِرَةِ.
من هنا، ومن خلال هذه الغيوم الصافية، أرى ماضي حياتي يختفي في ظلام دامس، تاركا لنفسي ذكريات حية لحبي، كما تترك اليقظة في نفس المستيقظ صور خيالات جميلة لحلم لذيذ قد استفاق منه.
يا نفسي! خذي حظك من الراحة في هذا المنزل الأخير كما يأخذ المسافر -الطافح قلبه بالآمال- حظه من الراحة، قبل أن يدخل أبواب المدينة، ويستنشق هنيهة نسيم المساء المعطر.
ولننفض نعالنا كما يفعل هذا المسافر، لأننا لن نمر ثانية في هذه الطريق التي اجتزناها مملوءة بالغبار، ولنتذوق مثله أيضاً، في آخر مرحلة من طريقنا، هذا الهدوء الذي يبشرنا بضجعتنا الأبدية.
أيها الإنسان! إن أيامك المعدودة، التي تشبه في حلكتها وقصرها أيام الخريف، تنحدر بك كما ينحدر الظل على جوانب الهضاب، فالصداقة تخونك، والرحمة تُعرِض عنك، إلى أن تتركاك في طريق القبر وحيدا، ولكن الطبيعة هنا تدعوك إليها لتبثك أشواقها، فارتم في أحضانها.
عندما يقلب لك كل شيء ظهر المجن، عندما يخونك كل شيء ويعرض عنك، ترى الطبيعة على حالها المعهودة: فالشمس نفسها تشرق طيلة أيام حياتك، إن الطبيعة لم تزل كما كانت عليه بالأمس، ترشدنا تارة بنور حقيقتها، وتظللنا أخرى، فلا تأسف أيها الإنسان لكل ما تُضِيعُهُ من متاع الحياة الدنيا، وتعال تَعْبُدُ ذلك الصدى وألحان تلك الموسيقى العلوية كما كان يَتَعَبَّدُهُمَا فيثاغورس من قبلك.
دع الطرف يُناجي الغزالة في سمائها نهارا، والأشباح في مِحرابها ليلا، واسْبَحْ مع الغيوم على بساط الريح، واخترق غابات الوادي الظليلة مع أشعة ذلك الكوكب الخفي.
إن الله خَصَّكَ أيها الإنسان بالعقل والفطنة لكي تتحقق بهما من وجوده، فَاسْتَجْلِهِ في صحيفة الطبيعة، فإن في سكونها وهدوئها صوتا يهتف باسمه، من منا لم يسمع هذا الصوت يدوي في أعماق قلبه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق