أفكار الصادق النيهوم مؤلمة إيلاما فظيعا للكثير من الناس، لجرأته التي تصل أحيانا إلى الزوايا الحرجة والمسكوت عنه خوفا من مقصلة الخروج عن عادات وتقاليد وخرافات المجتمع، عندما يُعري ويفضح المسكوت عنه.
وما تزال أفكار هذا الفيلسوف - الذي أطلقتُ عليه لقب فولتير العرب في إحدى التدوينات بهذه المدونة- يتردد صداها وتُثير جدلا واسعا بين القراء المولعين بما يمكن تسميته بالفكر الثوري الرافض المتمرد على كل ما هو جاهز ومعلب ومتداول أبا عن جد لذى الغالبية المستسلمة، وهو المبدأ الذي اتخذه الكاتب الراحل نبراسا ومنارا له في الحياة وتحمل أوزاره بكل صبر وشجاعة رغم المرض والألم وظلم البشر، إلى أن رحل إلى دار البقاء وحيدا في أواسط تسعينيات القرن الماضي ببلاد الغربة، ولم يشيع جنازته التي مرت بصمت وبرودة إلا نفر قليل جدا من الناس، وكثير جدا من الغموض الذي طبع حياته ومواقفه وآراءه الجريئة.
يقول عن المبالغين في مواويل الحب والهيام الحالمين بحب قيس وليلى الخرافي على أن الحب ليس عاطفة وليس تحليقا فوق السحب أو ذبحا لقصائد الشعر أو تبادل النظرات الوالهة مع امرأة.. إنه في الواقع- على عكس ما يعتقد كل الناس- لا علاقة له بشؤون القلب على الإطلاق، لأن الحب بكل بساطة هو موقف عقلي متناهي الرزانة، فكرة ثابتة يتبناها الإنسان عبر معاناته العقلية لمشاكل عالمه، ويتخذها مقياسا نهائيا لسلوكه اتجاه مواطنيه، ويبني فوقها كل طوبة في حياته، ويقف منتصب القامة مرفوع الهامة مستعدا للدفاع عنها حتى بقطع عنقه.
إن الحب- مثل أي صناعة أخرى- تحتاج إلى بدل الجهد والتدريب المتواصل والعمل والعرق، فالسم وحده تستطيع أحيانا أن تناله بالمجان، أما الحب الحقيقي فإنه- مثل الخبز نفسه- لا تناله بدون ثمن، فليس ثمة أحد يستطيع أن يمنحك حبا، كما يزعم صغار الشعراء، ليس ثمة امرأة تستطيع أن تحقق لك هذه المعجزة، ليس ثمة بيت أو وطن أو طفل أو صديق.
إن الحب الحقيقي تخلقه أنت في داخلك لكي تنعم به، أما إذا عجزت عن خلقه فلن يُفيدك أن يحبك العالم بأسره، إنك ستعيش وحيدا مثل فأر في السماء حتى ولو كنت محاطا بألف فأرةٍ مُعْجَبَةٍ ومُغْرَمَةٍ بك، هذه طبيعة المشكلة، إنسان يبحث عن النهر في الصحراء يجري وراء ظله، يطارد أمنيةً مضحكةً من صنع خَيَالِهِ الْمَرِيضِ، ثم تصدمه خيبة الأمل في نهاية المطاف وينتصب وسط تلال صحرائه المقفرة مستشعرا أسوأ أنواع الكره والحقد اتجاه عالمه بأسره، إنه ببساطة تاه في الطريق.
فالسبيل إلى الحب أن تغوص في داخلك، أن تضع أنانيتك الخرقاء جانبا، وتضع معها شهواتك الصغيرة وغرورك ورغبتك في التملك والاستحواذ على كل شيء، وجريك الدؤوب طوال حياتك ابتغاء إعجاب الناس بك ومدحهم المنافق لك، وخداعك لنفسك باسم المثل العليا التي لا تؤمن بها إلا لأنها تُرْضِي غُرُورَكَ وَحْدَهُ.
إن السبيل الوحيد إلى الحب هو أن تقفز خارج جلدك وتتعلم التواضع كما يتعلم الأطفال المشي، فالحب هو المستوى العقلي الوحيد الذي ما يزال الذهن البشري عاجزا عن تحقيقه في حالته الحاضرة، وما يزال الإنسان يحاول تفاديه عن طريق استبداله بالجنس، وليس ثمة شك أن لعبة الاستبدال تستطيع أن تؤدي الغرض لبعض الوقت، وتستطيع أيضا أن تُعَوِّضَ المرءَ عن حاجته إلى الحب، لكن ذلك لا يختلف في شيء عن رغبة العطشان في استبدال النهر بالسراب، إنه سيقضي بعض الوقت في الجري فوق تلال الرمال القاحلة ممنيا نفسه بالماء، لكن المؤكد أنه يموت بالعطش في نهاية المطاف، ذلك مصير لا يمكن تفاديه.
إن تسعا وتسعين بالمائة من الناس الذين ماتوا أو سيموتون في هذا العالم جاؤوا وذهبوا دون أن ينالوا من الحياة جرعة ماء، والمرء يقول تسعا وتسعين في المائة لمجرد الرغبة في التزام الاعتدال، فالواقع أن النسبة أعلى من ذلك بكثير.
إن تاريخ البشرية بأسره لا يعرف سوى بضعة أسماء للرجال الذين تمكنوا بطريق أو بآخر من تحقيق معجزة الحب، فهذا المسخ الذي أنتجته حضارتنا حتى الآن ومنحته لقب "إنسان" ليس قادرا على استقبال منحة الحب وليس بوسعه أن يمنح أحدا مقابل حبه شيئا سوى حبل المشنقة، إنه لا يفهم من الهبة السحرية العظيمة سوى أنها جِنْسٌ وَلَذَّةٌ حِسِّيَّةٌ وَشَنَبَاتٌ وَبَنَاتٌ، هُنَا يَتَسَاوَى الْقُرُودُ وَالنَّاسُ وَالتَّمَاسِيحُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق