
وأبو رزوق هو حلاق حومتنا الذي يحصد شعور رِؤوسنا في رمشة عين، بحيث كانت آلته اليدوية تفعل في رُؤُوسنا ما تفعله آلة جز صوف الخرفان، زيادة على أنه قالع أسنان بشكل مروع ومخيف وحجام يقوم بمص دماء الرؤوس الغليظة الثقيلة، كان رجلا ذو سحنة سمراء داكنة له عينان جاحظتان وأنف مفلطح وشفتين ممتلئتين، أصلع الرأس، متوسط الطول، ذكيا لدرجة تثير الإعجاب، حسن المعاشرة، كثير الضحك والتنكيت إلى أبعد الحدود، لا يرضى أبدا الذل والهوان، وكثيرا ما كان يتشاجر مع من كانوا يزعجونه أو يحاولون التطاول عليه.
وأذكر مرة أن أحد الأشخاص كان له من الجهة الأخرى للشارع محلا لبيع الأسطوانات الموسيقية مقابلا لحانوت أبي رزوق، حضر ذات صباح وفتح محله ثم قام برش بعض الماء أمامه كما هي عادة المراكشيين، وشغل أسطوانة للموسيقى، بحيث أن الصوت كان مرتفعا جدا، وكنا جالسين مع أبي رزوق يحكي لنا وينكت وما زلت أذكر إحدى مقولاته:" إذا كثر الزين فالزناقي وقل الماء فالسواقي ما بقى فالهم ما تلاقي"، فإذا بأوداجه تنتفخ وعيناه تحمران وترمق بحنق وغضب إلى صاحب محل الموسيقى، وأدركنا عندها أنها عاصفة الغضب الرزوقية، نهض أبو رزوق عندها ودخل محله وشغل جهاز راديو من الصنف القديم ورفع صوته لدرجة تصم الأذان، بحيث تفاجأ كل المارة في الشارع واندهشوا لذلك، فما كان من صاحب محل بيع الأسطوانات إلا ان استسلم ورضخ للأمر الواقع وخفض صوت الموسيقى لدرجة لم تعد تكاد تسمع.
وأبو رزوق كانت له هواية صيد الطيور والعصافير ووضعها في أقفاص، فيقوم بتعليق ستة أقفاص بحيطان الشارع بالقرب من محله، كنا نجلس وننظر إلى تلك العصافير البريئة وهي تغرد وتشقشق، أو ربما تبكي وتنوح وأتذكر إحدى المحفوظات تقول:
تُشَقْشِقُ الطُّيُورْ
فَرْحَانَةً بِالُّنورْ
فَرْحَانَةً بِالُّنورْ
تَقُولُ فِي سُرُورٍ
مَا أَجْمَلَ الضِّيَاءْ
وَالْعَبْدُ وَالأَمِيرْ
وَالْحُرُّ وَالأَسِيرْ
مَا أَجْمَلَ الضِّيَاءْ
وَالْعَبْدُ وَالأَمِيرْ
وَالْحُرُّ وَالأَسِيرْ
تَقُولُ فِي سُرُورٍ
مَا أَجْمَلَ الضِّيَاءْ
مَا أَجْمَلَ الضِّيَاءْ
وهنالك محفوظة أخرى تقول:
فِي الْبَوَادِي النَّائِيَّةِ
مِنْ بَيْنِ التِّلاَلِ
يَرْفَعُ الشَّادِي صَوْتُهُ
يُنْشِدُ شِعْرَاهُ
يَقُولُ يَا يَا إِبِلِي
سِيرِي وَسِيرِي إِلَى بَلَدِي
سِيرِي وَسِيرِي إِلَى بَلَدِي
وكان أجمل يوم في العطلة هو عندما نحضر مع أبي رزوق عملية صيد العصافير بحدائق المنارة، وحدائق المنارة التي أُنجزت إبان حكم دولة الموحدين بداية القرن 12 للميلاد، تقع في الجهة الغربية لمدينة مراكش على بعد 3 كيلومترات من وسط المدينة، تبلغ مساحتها حوالي 100 هكتار مغروسة بأشجار الزيتون، يتوسطها صهريج مستطيل للمياه محيطه 510 أمتار وعمقه متران، وتعتبر اليوم هذه الحدائق بالإضافة إلى حدائق أكَدال وحديقة عرصة مولاي عبد السلام من بين أهم المناطق الخضراء التي يلتجئ إليها سكان المدينة الحمراء في أيام الصيف الحارة.
كان أبو رزوق ينتظرنا في صبيحة اليوم الموعود ممطتيا دراجته الهوائية وحاملا معه قفته التي تحتوي جميع اللوازم الضرورية لعملية الصيد، فيعطينا نحن الستة قفصا فارغا لكل واحد منا، ثم يقول لنا هيا بنا، فينطلق بدراجته، وننطلق نركض وراءه لمسافة 3 كيلومترات حتى نصل إلى حدائق المنارة، فيختار موقعا مناسبا للصيد عادة ما يكون بالقرب من جدول للمياه، يفتح أبو رزوق قفته فيخرج قارورة بداخلها سائلا لزجا وهو ما يسمى بالعلكة، ويحضر بعض العيدان الرقيقة ويدهنها بهذه العلكة، ويضع كل عود فوق حجرين في أمكنة تجتذب الطيور للشرب، ثم نبتعد عن الجدول لمسافة 50 مترا تقريبا وننتظر، عادة لا يطول انتظارنا، فبمجرد ما نسمع أصوات هذه العصافير المسكينة وهي تستغيث وتضرب بأجنحتها بكل ما أوتيت من قوة كي تخلص نفسها من الفخ الذي وقعت فيه، نركض نحو جدول المياه لنجد عصفورين أو ثلاثة أسيرين، فيضع أبو رزوق كل عصفور في قفص، كانت العملية تتم خلال ساعتين أو ثلاثة على الأكثر، يتم خلالها صيد ثلاثة أو أربعة عصافير، ثم نعود إلى قواعدنا ركضا خلف أبي رزوق ممطيا دراجته الهوائية.
لكن المفاجأة كانت في صبيحة أحد الأيام، كنا جالسين بالقرب من محل أبي رزوق ننتظر قدومه، فلما حضر رأينا في ملامحه حزنا دفينا وشيئا غير عادي، لم يتكلم معنا كما هي العادة، فتح باب محله ورش أمامه بالماء، ثم أخرج الأقفاص الستة للعصافير وعلقها على حيطان الشارع، وجلس على كرسيه المعتاد، ثم أخرج 'السبسي' وهو الغليون وملأ شقفه بالكيف المدرح بطابا أو التبغ الأسود، ثم أوقده وراح يدخن وينظر إلى الأقفاص نظرة تلو الأخرى، فلما فرغ من ذلك، نهض واتجه نحو الأقفاص، وأخذ يفتح أبوابها واحدا تلو الآخر، ونحن في ذهول تام مما يحدث من حولنا، طارت العصافير وحلقت في العلا، وعيون أبي رزوق تتابعها، ورأينا ابتسامة خفيفة تعلو محياه وكأنه تخلص من عبئ كان يثقل كاهله منذ زمان، ومنذ تلك اللحظة لم أعد أحب اصطياد العصافير ومن يصطادها.
هوامش:
تشقشق الطيور: تغرد وقت الصباح مع شروق الشمس
هوامش:
تشقشق الطيور: تغرد وقت الصباح مع شروق الشمس