أسرار النجاح تكمن في التملق والانبطاح

يحكى أن النعمان ملك الحيرة أراد أن يبني قصراً ليس له مثيل في الدنيا يفتخر به على العرب ويفاخر به أمام الفرس، فوقع اختياره على مهندس رومي مبدع في البناء إسمه سنمار لتصميم وبناء هذا القصر، فاستدعاه النعمان وكلفه ببنائه، فلما انتهى سنمار من بناء القصر بعد عشرين سنة على أتم وأروع ما يكون وأطلقوا عليه اسم الخورنق، جاء النعمان ليعاين البناء، فاستعرض القصر وطاف بأرجائه الرحبة الفسيحة ثم بعد محادثة قصيرة مع سنمار أمر رجاله بإلقاء سنمار من أعلى القصر، فسقط هذا الأخير جثة هامدة بلا حراك حتى لا يبني مثله لغيره، فضربت العرب به المثل لمن يُجزي بالإحسان الإساءة.
وحكاية سنمار هذه تنطبق على مهندس ثائر متمرد على الفساد والمفسدين، كان في بعض الأحيان ينتابه شعور بالإحباط والتذمر اتجاه من أحسن معاملتهم وساعدهم في ظروف صعبة، ويعز عليه أن يرى كيف تجاهلوا ذلك ونكروه وأصبح نسيا منسيا، وفي أحايين أخرى كان يشعر بتبخيس وانتقاص للأعمال التي بدل جهد المستطاع للقيام بها بتفان وإتقان ونكران للذات في إطار المهام التي تُسند إليه من طرف الإدارة، فيلمس عن كثب ويرى من التحقوا من بعده بالوظيفة لا يبدلون البتة المجهودات التي يبدلها كيف يرتقون الدرجات والمراتب ويحصلون على كثير من الامتيازات بدون حسيب ولا رقيب، بينما يقبع هو في مكانه ولا يتحرك للأمام إلا من أجل إنجاز المهمات المستحيلة والمستعصية على من يرتقون السلالم بسرعة البرق وهم أقرب إلى النيام في مأذبة اللئام. 
وكان يرى أن هذه الأمور الغريبة والقرارات المستغربة مهما حاولت الإدارة تبريرها وطلائها بطلاء براق يعمي العيون ويسحر الألباب ويأسر الإرادة الحرة، لا تمت للحقيقة بصلة ولا تفهم من هذه الحقيقة إلا ذلك الوجه الذي يلائم تأويلها للقوانين تأويلا يتماشى مع مصالحها الضيقة إرضاء لأولي النعمة والمقربين، أما الوجوه الأخرى للحقيقة فهي تهملها باعتبارها مكذوبة أو من بنات أفكار الذين لا يفقهون في القانون الإداري شيئا. 
والمشكلة والمعضلة الكبرى هو أن هؤلاء "النوابغ" في تأويل القانون الإداري يهتمون فقط بحرفية التشريع ويهملون روحه وهدفه الأساسي، وكان هذا المهندس كثيرا ما كان يردد أثناء كلامه احذر من الحقود إذا تسلط ومن الجاهل إذا قضى ومن اللئيم إذا حكم، ويقول مع نفسه هذا ليس عدلا ولا يقبله منطق ولا دين مع أنه يدرك جيدا أن قوانين الطبيعة منذ خلقها الله قائمة على الحق والعدل، بينما قوانين البشر قائمة على الكذب والخداع والظلم والاغتصاب، وأن أسرار النجاح في بلاده التي وإن جارت عليه عزيزة تكمن في التزلف والانبطاح والاحتماء بالكراسي الصحاح، فيتذكر عندها مقولة الشاعر السوداني الراحل إدريس جماع:
إِنَّ  حَظِّي  كَدَقِيقٍ  فَوْقَ  شُوكٍ نَثَرُوهْ       ثمَّ  قَالُوا  لِحُفَاةٍ   يَوْمَ  ريِحٍ  اجْمَعُوهْ
صَعُبَ  الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ  قَالُوا  اتْرُكُوهْ       إنَّ مَنْ أَشْقَاهُ رَبِّي كَيْفَ أَنْتُمْ تُسْعٍدُوهْ
ثم ما يلبث أن يستحضر في مخيلته الممثل الذكي المبدع 'شارلي تشابلن' في نهاية أفلامه عندما يفقد كل شيء على الرغم من تفانيه في العمل وصدقه وطيبوبته مع من يصاحبهم، فتضيق به الأرض بما رحبت ويرى بأن كل شيء من حوله من الأحياء قد اندثر وتلاشى باستثناء الأرض التي يقف عليها والسماء التي يلتحف بها وما تبقى له من الزمن، عند ذلك يلمع بريق الأمل في عينيه فيسوي قبعته المثقوبة ويلعب بعكازته البالية ويسوي سرواله المهترئ المليء بكدمات وجراح الحياة ويقوم بحركاته البهلوانية، ثم يتابع الطريق المشمس المغبر الطويل أمامه بتفاؤل ومعنويات مرتفعة وثقة في المستقبل.
وكانت طريقة 'شارلي تشابلن' في فن تحليل الحياة والتعامل معها تذكره أيضا بروايات الأديب الراحل يوسف السباعي في مقولته: "إذا كنت تسير على قدميك فإياك أن تركب برهة وإلا ذاقت قدماك نعمة الركوب والراحة وكرهت السير الذي طالما اعتدته، فلا تقبل النعمة الطارئة قط ولا تفرح بالكثير المنقطع فسيجعلك تكفر بالقليل الدائم الذي وطنت نفسك على قبوله والرضا به"، وعندما تُسدُّ في وجهه أبواب ما يسمى بالعدالة البشرية التي قال فيها الأديب الراحل جبران خليل جبران " ليس في الغابات عدل لا وليس فيها العقاب .....إن عدل الناس ثلج إن رأته الشمس ذاب"، كان يقول تذكر معي يا من قصدتك و تجاهلتني يا من ظننت نفسك تتحكم في رقاب العباد ومصائرهم، يا من أعمتك وغررت بك صولة المنصب، تذكر معي أنه مهما عسعس الليل فلا بد للصبح أن يتنفس ويلفظ بك في مزبلة التاريخ كما لفظ بالكثير من أمثالك أيها الحثالة، بل وأكثر منك صولة وجبروتا، تذكر معي أن صوت الحقيقة سيصدح وسيظل هو الأعلى مهما حاولت إسكاته وتجاهله، تذكر معي بأن كل هذه الأمور تهون، لكن الشيء الوحيد الذي لا يهون وأخطر ما يمكن للمرء أن يواجه في حياته هو إدراكه وإحساسه الدائم بغباوة الذين يتحكمون في شؤونه.