طُلِب من أحد العلماء إبان حكم العباسيين أن يقبل منصب القضاء في الدولة، فقال متهربا من الدخول في ذلك الجهاز: إن بين عقلي وهواي نزاع طويل، وهما يطلبان مني أن أحكم بينهما بالعدل، فلما أحضرتهما عندي نطق عقلي وقال: لك الآخرة نسيئةً وأريد أيضاً أن أمتعك في الدنيا بحلالها، فاعدل بيننا في الحكم!، فأنا حَكَمْت لعقلي، ثم مضتْ أيام وحَكَمْتُ لهواي، ولقد استمر هذا النزاع بين عقلي وهواي مدة خمسين عاماً، وأنا أميل تارة إلى العقل وتارة إلى الهوى! وأردف قائلا إن الذي لا يمكنه الحكم بالعدل بين عقله وهواه ولا يحسم الأمر بينهما بعد خمسين عاماً كيف يستطيع أن يتصدى لمنصب القضاء في الحكم بين المتنازعين من الناس، في الوقت الذي أنا أعرف إن الحقّ مع عقلي دائماً، بينما في قضايا الناس يصعب عليّ إحراز الحق ومعرفته بدقّة، فابحثوا لكم عن عالم يتصدى لهذا المنصب وقد فرغ من القضاء بين عقله وهواه بالعدل فأصلح بينهما وجعلهما متفقين في طاعة الله وطلب رضاه، إنه الأصلح للقضاء بين الناس.
إن تحقيق العدل في المجتمع وتجنب الظلم سواء على المستوى الأفقي أو العمودي يعتبر أهم إنجاز على الإطلاق وعلى مر العصور لتوطيد وتمـتـيـن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتحقيق السلم الاجتماعي والعدل والعدالة الاجتماعية، لهذا أقر الفقهاء وأجمعوا على أن حكم الكافر العادل أفضل عند الله من المسلم الظالم، وعلى أن العدل هو أساس الملك وليس الإيمان، فتدعيم العدل والعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذاً هو الطريق الصحيح والجوهري الذي يجب أن يسلكه أي مجتمع من المجتمعات للخروج من غياهب الظلمات إلى النور، ومن المحاباة والمجاملات وحب السلطة والجاه والمال إلى النزاهة في الحكم والإخلاص للحق وحده في سبيل تحقيق التوازن في المجتمع والسير به نحو أفق السلم والعدالة المنشودة.
والعدل لا يمكن أن يحققه فرد واحد حتى وإن امتلك ذلك الفرد من السلطات ما امتلكه فرعون، لذلك فإن العدل مرهون أيضاً بقيام مؤسسات المجتمع السياسية والقضائية والاقتصادية والمدنية أولا وقبل كل شيء بالالتزام التام بروح القوانين واحترامها نصا وتطبيقا، في ظل وجود سلطة قضائية مستقلة القرار عـدلة في حكمها ورعة في عدلها وتقية في نفسها وساهرة سهر الساهر الأمين على التطبيق الأمثل لتلك القوانينـ ومتصدية بالمرصاد لمحاسبة كل من تسول له نفسه أن يتجرأ على تجاوزها أو خرقها مهما بلغ شأنه.
إن الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها وحملها الإنسان لظلمه وجهله لا يستطيع أن يحملها إلا من تغلب على صفة الجهل بالعلم والتفقه في دين الله عز وجل ومن تغلب على صفة الظلم بالعدل والإنصاف، ومع ذلك فلن يستطيع بشر أن يكمل العدل كله ولا أن ينفك عن الجهل كله، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" يوسف21.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق