مع إطلالة شهر مايو يبدأ زئبق مدينة مراكش في الارتفاع تصاعديا ليبلغ أوجه في شهر يوليوز، وكنا كأطفال في سن التاسعة والعاشرة نستدل على بداية الحر عن طريق الضغط بأقدامنا على سدادات قنينات المشروبات الغازية، فتنغرس في الطرقات المزفتة كانغراس مسامير في الزبدة، ولم تكن تحمي أرجلنا آنذاك غير أنعلة بلاستيكية بيضاء رخيصة الثمن تم ترميمها عند الإسكافي أكثر من مرة لدرجة أنها أصبحت 'تطلب الشرع' معنا وترجونا أن نتخلى عنها، ولوفائنا وحبنا لها لم نكن البتة نتخلى عنها حتى تتخلى عنا هي، وتتفتت إلى عدة أجزاء في يوم ما على قارعة الطريق وتتركنا عائدين إلى منازلنا حفاة.
كانت هذه الفترة بالضبط ذات نكهة خاصة ومميزة لأنها تأذن بقرب امتحانات الدورة الأخيرة، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، وأشد ما كنا نخشى منه جميعا ونحاول دائما تفاديه هي الإهانة، وقبل حلول موعد الامتحانات بشهر كان المعلم يكتب في وسط السبورة السوداء بخط عريض من تحته سطر عبارة "مراجعة عامة"، مراجعة يختلط فيها النحو بالإعراب، والتاريخ بالجغرافيا، والتربية الإسلامية بالتربية الوطنية، والمحادثة بالمحفوظات، والأشياء بالإنشاء، والشكل بالإملاء، وقس على ذلك، هذا فيما يخص معلم اللغة العربية، أما بالنسبة لمعلم اللغة الفرنسية فحدث ولا حرج، لكن أكثر ما كان ينهك أدمغتنا ويعذبها عذابا مبرحا هو تحويل الوحدات من هكتار وآر وسنتيار ومتر مربع، ولتر ودسم مكعب وسم مكعب، وطن وقنطار وجرام، والحق يُقال أن للمعلم حق في تأكيده على درس تحويل الوحدات، لأن بعضا من التلاميذ كانوا يرسبون فعلا بسببها في الامتحانات، ومع تزايد ارتفاع درجات الحرارة كنا نعاني ويختلط في رؤوسنا كل هذا الكم الهائل والمتنوع من المعلومات، فتتبلد أذهاننا وترتخي أجفان عيوننا ويسري الكسل في أجسادنا خصوصا في أوقات ما بعد الظهيرة، وما أدراك ما الظهيرة وما يُرافق هضم الطعام، ولا يعود يهمنا سوى أن يمن الله علينا بفرج من عنده ويُخرجنا من هذه المحنة كالخيط من العجين ويُحِلَّ العطلة الصيفية في أسرع وقت.
كانت هذه الفترة بالضبط ذات نكهة خاصة ومميزة لأنها تأذن بقرب امتحانات الدورة الأخيرة، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، وأشد ما كنا نخشى منه جميعا ونحاول دائما تفاديه هي الإهانة، وقبل حلول موعد الامتحانات بشهر كان المعلم يكتب في وسط السبورة السوداء بخط عريض من تحته سطر عبارة "مراجعة عامة"، مراجعة يختلط فيها النحو بالإعراب، والتاريخ بالجغرافيا، والتربية الإسلامية بالتربية الوطنية، والمحادثة بالمحفوظات، والأشياء بالإنشاء، والشكل بالإملاء، وقس على ذلك، هذا فيما يخص معلم اللغة العربية، أما بالنسبة لمعلم اللغة الفرنسية فحدث ولا حرج، لكن أكثر ما كان ينهك أدمغتنا ويعذبها عذابا مبرحا هو تحويل الوحدات من هكتار وآر وسنتيار ومتر مربع، ولتر ودسم مكعب وسم مكعب، وطن وقنطار وجرام، والحق يُقال أن للمعلم حق في تأكيده على درس تحويل الوحدات، لأن بعضا من التلاميذ كانوا يرسبون فعلا بسببها في الامتحانات، ومع تزايد ارتفاع درجات الحرارة كنا نعاني ويختلط في رؤوسنا كل هذا الكم الهائل والمتنوع من المعلومات، فتتبلد أذهاننا وترتخي أجفان عيوننا ويسري الكسل في أجسادنا خصوصا في أوقات ما بعد الظهيرة، وما أدراك ما الظهيرة وما يُرافق هضم الطعام، ولا يعود يهمنا سوى أن يمن الله علينا بفرج من عنده ويُخرجنا من هذه المحنة كالخيط من العجين ويُحِلَّ العطلة الصيفية في أسرع وقت.
لكن محنتنا لا تنتهي بمجرد حلول العطلة الصيفية التي كانت تستمر ثلاثة أشهر ابتداء من منتصف شهر يونيو، إذ كان يُفرض علينا أن نقضي شهرا ونصف بالكتاب القرآني لحفظ ما تيسر من الذكر الحكيم، ولا زالت لحد الآن ترتسم في مخيلتي صورة الفقيه الذي كان يسهر على تعليمنا وتربيتنا، بلحيته الطويلة البيضاء، ووجهه المشرق المضيء، وقامته المعتدلة المنتصبة في استواء رغم تقدمه في السن، وهيئته التي تدعو للوقار بعباءته الداكنة التي تغطي كامل جسمه من الرقبة حتى الكعبين، وعمامته البيضاء، وبلغته الصفراء، كان رحمة الله عليه يضع بجانبه مجموعة من 'المشاحيط' وهي عبارة عن قضبان من أغصان شجر الزيتون يتراوح طولها ما بين المتر والمترين ونصف، وهي أدوات جد فعالة في إيقاظ كل من تُسول له نفسه أن يداهمه النعاس ونحن نقرأ القرآن بصوت مرتفع، مجرد 'شحطة' واحدة على إحدى الأذنين حتى يقفز النائم ويرتفع صوته صادحا فوق جميع الأصوات الأخرى التي تبدو متداخلة ومتراكبة بعضها فوق بعض، وكنا لا نغادر الكتاب إلا بعد استظهار عن ظهر قلب الآيات القرآنية المكتوبة على ألواحنا، ومن أخفق في ذلك يعود إلى مكانه ويبقى حبيس الكتاب حتى يتمكن من الحفظ، وفي صبيحة اليوم التالي يمَْحِي لوحه كل من حفظ جيدا ما خُطّ عليه بعد استظهاره مرة ثانية أمام الفقيه، أما من كان خائفا مترددا فإنه يُبقي على لوحه كما هو حتى يتيقن من حفظه، وعملية محو الألواح كانت تتم داخل إناء طيني بعمق نصف متر مغمور بالماء ، وكان الفقيه يأمرنا بعد انتهاء عملية المحو بعدم سكب 'ماء القرآن' في الشوارع والأزقة حتى لا نرتكب إثم تدنيس كلام الله، لذلك كنا نحافظ عليه داخل الإناء الطيني ونتسابق لنسقي به الأشجار والنباتات حتى ولو بعدت المسافة، بعد ذلك نحك فوق ألواحنا طين الصلصال الرمادي اللون ونتركها تجف على أشعة الشمس ونحن نردد لكي تجف بسرعة:
يا نشاف ويا نشاف...نشف ليا لوحتي...لوحتي عند الطالب...والطالب فالجنة...والجنة محلولة...حللها مولانا...مولانا مولانا...لا تقطع رجانا...ورجانا ورجاكم...فللا فاطم الزهرة...والحسن والحسين...كيلعبوا بالكيسان...تهرس كاس قال ليه ما فيها باس.
بعد جفاف الألواح الخشبية، نمر من أمام الفقيه واحدا تلو الآخر ليكتب لكل منا على لوحه ما بين ستة و خمسة عشر سطرا من الذكر الحكيم، حسب سن وسرعة كل منا في الحفظ، وأحيانا كنا نكتب بأنفسنا باعتمادنا على المصاحف، وتعود الدورة من جديد مع إشراقة كل يوم آخر.
كان يوما الأربعاء والأحد يومان مهمان بالنسبة للفقيه، فهو لم يكن موظفا حكوميا، وفيهما كان يحصل على بعض المال من آبائنا مقابل خدماته، وكانت هذه 'البركة' التي تساعده على تدبر أحواله تسمى ب 'الأربعية' نسبة ليوم الأربعاء و 'الحدية' نسبة ليوم الأحد، ولكثرة شغبنا كنا أحيانا نُحيك المؤامرات لنحتفظ بأموال الفقيه وعدم دفعها له، فنستولي عليها ونتغيب عن الكتاب ثم نذهب لشراء كرة قدم مطاطية، ومن تم نخرج إلى الفضاءات الرحبة خارج أسوار المدينة كباب الجديد وباب الرب، وعندما نلتقي بأطفال آخرين في مثل سننا من حارة أخرى كنا نتفق معهم على خوض مباراة في كرة القدم، مباراة غريبة وعجيبة لا حكم يسيرها ولا أشواط فيها ولا توقيت لها، وكل شيء جائز فيها من ضرب وركل ورفس وتمزيق ملابس، تبتدئ من العاشرة صباحا ولا تنتهي إلا بعد الظهيرة، وفي مرات عدة كان الجمع لا يتفرق إلا على وقع اقتتال وعراك بالأيدي بين الفريقين، يتطور بعد ذلك إلى عراك بالحجارة، غالبا ما ينتهي بدون إصابات تذكر، لكن أحيانا تسيل دماء البعض منا.
وفي اليوم الموالي كانت العصا تنتظر من عصى في الكتاب، أولا كعقاب لنا لاستيلائنا على أموال الفقيه ظلما وعدوانا وبدون وجه حق، وثانيا على هروبنا من الكتاب والذهاب للعب كرة القدم، وبالرغم من ذلك كنا نعاود الكَرَّة كل مرة لأن هوايتنا التي كنا نحلم بها في النوم واليقظة هي كرة القدم، لدرجة أن جلودنا اعتادت على العصا و لم يعد يهمها ولا يؤلمها ما يهبط عليها من ضرب شديد مبرح، ولم يكن يواسيني ويجدد حيويتي ويزرع في روحا عالية من الإقدام والتحدي لاستقبال عام دراسي جديد، سوى الشهر ونصف المتبقية من العطلة التي كنت أقضيها في حرية تامة بالبادية عند أخوالي، بين السواقي المتدفقة بالمياه، والأبقار والخرفان الراعية في الحقول، تحت ظلال الأشجار الوارفة المثمرة، والخيرات الكثيرة المنتشرة، والوجوه السمرة النظرة المستبشرة، تحت سماء شاسعة وأرض خصبة معطاء، كانت تشعرني بضآلتي وصغري وتفاهتي، لقد وجدت مكاني بين هؤلاء الناس البسطاء بدون بروتوكولات ولا أبهات خاوية، فتعلمت منهم الصبر والتواضع والصدق والعمل والتراحم بين الناس، ولعل تلك الأيام الخوالي التي كان لها أثر كبير على حياتي كانت من أجمل وأحلى ذكرياتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق