قصيدة الفأر الفار لشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم

مضى أكثر من نصف قرن على رحيل شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم (1900-1954) عن هذه الديار، وما زال إسمه يشغل حيزا كبيرا في الساحة الشعرية، لما تتميز به قصائده من حس مرهف، وسرعة بديهة، ونفس متقدة، وقدرة كبيرة على التعبير الذي لم يكن يخلو من لمسات إبداعية متميزة، ولا غرو أن يقول في صديقه الفأر الذي هجر بيته عندما لم يجد فيه ما يسمن ويغني من جوع في  قصيدة 'الفأر الفار' الشهيرة المعروفة بعنوان آخر وهو 'نلت عطفي':
تعتبر قصيدة الفأر الفار من بحر مجزوء الرمل للشاعر محمد بن إبراهيم الملقب بشاعر الحمراء نسبة إلى مدينة مراكش من أروع القصائد الشعرية من وجهة نظري الشخصية، أولا لطرافتها وخفة روحها التي عز نظيرها وثانيا لانسياب نطقها  على اللسان بدون تكليف ولا إطناب في الكلام كما تنساب المياه العذبة الرقراقة في جداول السلام وثالثا في مغزاها القوي المتمثل في أن الكثير من الخلق إلا من رحم ربك لا يهمه في هذه الحياة شيء آخر غير المال الذي هو روحه وشرفه وعشيرته ووطنه:
الْفَأْرُ الفَارُّ
نِلْتَ   عَطْفِي   وَحَنَانِي         ثُمّ    فَارَقْتَ     مَكَانِي
يَا  تُرَى  هَلْ تِهْتَ عَنِّي         أَمْ      نَهَاكَ     الأَبَوَانِ
كَانَ    بَيْتِي    كَسَمَاءٍ         نَحْنُ     فِيهِ     فَرْقَدَانِ
كُنْتَ  لِي  خَيْرَ  أَنِيسٍ          نَشِطٍ   فِي   كُلِّ    آنِ
وَلَكَمْ    تَبْدُو    لَطِيفاً         فِي      تَنَاءٍ      وَتَدَانِ
مُسْتَقِيماً   فِي  هُرُوبٍ        كَحِصَانٍ    فِي    رِهَانِ
مِنْ    يَمِينٍ     لِشِمَالٍ        كُرَةً     فِي    صَوْلَجَانِ
لَسْتَ تُدْرَى فِي مَسِيرٍ          مُسْرِعاً     أَمْ    مُتَوَانِ
الْخُطَى   الأَرْبَعُ  تَبْدُو         كَانْسِيَابِ      الأُفْعُوَانِ
لَيْسَ  مَا   تُفْسِدُهُ  لِي         مِنْ   إِدَامٍ   فِي    أَوَانِ
لَيْسَ  لِي زَرْعٌ وَزَيْتٌ         وَطَعَامٌ    فِي     جِفَانِ
لَيْسَ  مِنْ  شَيْءٍ  عَلَيْهِ        يَتَعَادَى         الأَخَوَانِ
فُأُوَارِي   لَكَ    هِرّاً         مُقْلَتَاهُ          جَمْرَتَانِ
مُنْزَوٍ   عَنْكَ    بَعِيداً         وَيَدَاهُ          تَبْطِشَانِ
لَيْسَ  مَا يُوجِبُ هَذَا          مِنْكَ  فَارْجِعْ فِي أَمَانِ
بَسِمَ   الْفَأْرُ   بِخُبْثٍ         بَسْمَةً   فِيهَا   ازْدَرَانِي
قَالَ  لِي وَالْقَوْلُ مِنْهُ          مِثْلَ  سَهْمٍ  قَدْ  رَمَانِي
كُلُّ  مَا  قُلْتَهُ    حَقٌّ         وَغَنِيٌّ     عَنْ     بَيَانِ
وَهُوَ   عُذْرِي   حِينَ   عَنْ  بَيْتِك   أَلْوِي   لِعِنَانِي
مَا  ا لَّذِي  أَفْعَلُ  فِي  أَرْكَانِ     بَيْتٍ     رَمَضَانِي
أَتَغَذَّى       بِقَرِيضٍ         لِفُلاَنٍ           وَفُلاَنِ
وَمَقَامَاتِ     أًبِي     الفَضْلِ    الْبَدِيعِ    الْهَمذَانِي
وَمَقَامَاتِ  الْحَرِيرِي        تَحْتَ دِيوَانِ ابْنِ  هَانِي
وَاللُّزُومِيَّاتُ    مِنْهَا         نُسْخَةٌ   أَوْ    نُسْخَتَانِ
وَعَلَيْهَا   النِّصْفُ  مِنْ   شَرْحِ  الْمَحَلِّي    وَالْبُنَانِي
وَحَصِيرٍ  مِنْ  تُرَاثٍ        لِبَنِي    عَبْدِ    الْمَدَانِ
وَرُسُومٍ       لِرِفَاقٍ        عُلِّقَتْ  فِي   الْجُدْرَانِ
بَعْضُهَا كَهْلٌ وَبَعْضٌ        للِصِّبَا  فِي   الْعُنْفُوَانِ
وَالِدِي بِالأَمْسِ وَأُمِّي       فِي  رُجُوعِي سَأَلاَنِي
يَا تُرَى إِذْ غِبْتَ عَنَّا        كُنْتَ  فِي أَيِّ  مَكَانِ
قُلْتُ قَدْ كُنْتُ بِبَيْتٍ        مِنْ  أَعَاجِيبِ  الزَّمَانِ
وَإِذَا مَا  شِئْتُمَا  أَنْ         تَرَيَاهُ         فَاتْبَعانِي
رَأَيَاهُ    ثُمَّ     قَالاَ        وَهُمَا   ليِ   نَاصِحَانِ
إِنَّ  ذَا  بَيْتُ أَدِيبٍ        مُولَعٍ   بِالشِّعْرِ   عَانِ
لاَ تَلِجْهُ  بَعْدَ   هَذَا       فَهْوَ   يُعْدِي  بِالتَّدَانِي
وَتُرَانِي كَيْفَ أَعْصِي      مَنْ  هُمَا  لِي  وَالِدَانِ
كَفَلاَنِي      بِحَنَانٍ       وَصَغِيراً       رَبَّيَانِي
قَدْ عَنَانِي مَا عَنَاهُمْ       وَعَنَاهُمْ   مَا   عَنَانِي
قُلْتُ   وَالْقَلْبُ  مِنَ  الْغَيظِ   يُعَانِي  مَا  يُعَانِي
هَكَذَا تُنْكِرُ  عَهْدِي      هَكَذَا   يَابْنَ  الزَّوَانِي
أَمِنْ أَجْلِ الْمَالِ أَبْقَى     مُفْرَداً  مِنْ  دُونِ ثَانِ
وَكَذَا    حَتىَّ   مِنَ   الْفِئْرانِ    أُرْمَى   بِهَوَانِ
أَوَ  مَا  يَكْفِي  بِأَنيِّ        ذُو   مَعَانٍ   وَبَيَانِ
وَلِسَانِي  ذُو  يَرَاعٍ        وَيَرَاعِي  ذُو  لِسَانِ
فَإِذَا صُغْتُ  قَرِيضاً       فَقَوَافٍ   كَالْجُمَّانِ
وَخِلاَلٍ   طَاهِرَاتٍ      عُرِفَتْ   مُنْذُ   زَمَانِ
وَضَمِيرٍ لِي شَرِيفٍ       عَرَفَتْهُ        الثَّقَلاَنِ
وَإِذَا اسْتُصْرِخَ بِاسْمِي    لَمْ   أَكُنْ  بِالْمُتَوَانِي
ثُمَّ أَبْقَى  هَكَذَا لاَ        مَنْ    أَرَاهُ   وَيَرَانِي
قَالَ  لِي  يَا  خَيْرَ أَدِيبٍ  دَعْكَ مِنْ ذَا الْهَذَياَنِ
اِكْسِبِ الْمَالَ لِتَحْظَى     مِنْ  رِفَاقٍ  باِلتَّدَانِي
وَوَدَاعاً   إِنّ   أُمِّي       وَأَبِي       يَنْتَظِرَانِ
إن  قصيدة 'الفأر الفار' لهي وصف في غاية الدقة للبيت المتواضع لشاعر الحمراء ولوضعه الاجتماعي الذي لم يكن يُسيلُ حتى لعاب الفئران، لقد كانت فلسفته في الحياة تتلخص بالمجمل في كونها لا تستحق كل هذا العناء المضني والقاتل الذي يبذله معظم الخلق من أجل الظفر بحبها، لذا عاش حياة متواضعة ومتناقضة تتجاذبها حياة المرح والقناعة والوحشة والضياع والفقر والغربة والإثارة في آن واحد، وقد تجلى ذلك تجليا واضحا في جميع قصائده الشعرية الشاعرية  التي كانت تتواضع عن اقتدار أمام القراء بأسلوبها الجميل السهل الأخاذ، الذي كثيرا ما كان يتوشح برداء من التهكم والسخرية والمرح والفكاهة والتنكيت.
فعلى الرغم من حرص والده منذ نعومة أظافره على تلقينه القرآن الكريم والمتون العلمية والفقه والتفسير وعلوم اللغة العربية، إلا أن شاعر الحمراء كان له رأي آخر ووجهة أخرى لانجذابه الشديد نحو الأدب الذي كانت ثورته تجيش بين جوانحه، فراح ينهل من معين دواوين ابن خفاجة وابن مطروح وابن سهل والمعري وبهاء الدين زهير والمتنبي  وغيرهم من الفطاحل، مما أتاح له أن ينظم قصائده في كل فنون الشعر من مدح وهجاء ووصف وغزل وفخر ورثاء وشوق وشكوى، إلى غير ذلك من فنون الشعر، وهذا ما يتجلى في بعض المقتطفات من شعره في الأبيات التالية:
غَيْرَ أَنِّي غَيْرَ أَنِّي
يَا   صَدِيقِي   وَوَثِيقِي      وَشَقِيقُ   الرُّوحِ   مِنِّي
عَنْكَ  مَا غِبْتُ حَيَاتِي      إِنْ تَكُ قَدْ غِبْتَ  عَنِّي
كَمْ   تَرَدَّدْتُ   مِرَاراً      فِي  اشْتِيَاقٍ  لِمَكَانِكْ
عَلَّنِي   أَظْفَرُ    حَتَّى       بِسَلاَمٍ    مِنْ   بَنَانِكْ
فَأُعَانِي   مَا    أُعَانِي      مِنْ    عَنَاءٍ    وَاكْتِئَابِ
وَأُوَارِي   السِّرَّ  مِنِّي      فِي  غَيَابَاتِ  الْحِجَابِ
غَيْرَ أَنِّي غَيْرَ أَنِّي
عَجِيبٌ أَمْرُ عَبْدِ السُّوء
أُمُورُ  عَبِيدِ  السُّوءِ  دَوْماً عَجِيبَةٌ      وَلَكِنَّ  هَذَا الْعَبْدَ  أَمْرُهُ   أَعْجَبُ
وَلَمْ يَدْرِ أَنّ العَبْدَ عَبْدٌ وَلَوْ مَشَى      بِأَقْدَامِهِ مِنْ خَالِصِ  التِّبْرِ   قَبْقَبُ
وَأَنْتَنُ     مَا     يَبْدُو    مُتَطَيِّباً       وَلَيْسَ  مُجْدٍ  فِي  الصِّنَانِ تَطَيُّبُ
لَنَا اللهُ تَعَالَى
قُلْ لِمَنْ غَضُّوا بِطَرْفٍ      ثُمَّ    حَيَّوْنَا   كُسَالَى
سَكَرُوا بِالْمَالِ  وَالْجَا      هِ   فَهُمْ   مِنْهُ   ثُمَالَى
لَكُمْ    مَالٌ    وَجَاهُ      وَلَنَا      اللهُ     تَعَالَى
عُدَّ الصَّحِيحَ
قَدْ قَصَدْتُ الطَّبِيبَ يَوْماً لِفَحْصِي      غَيْرَ  أَنّهُ  وَهْوَ   الطَّبِيبُ   الْجَلِيلُ
كُلَّمَا  مَسَّ  مِنِّي   عُضْواً  يُنَادِي      إِنَّ   ذَا   مِثْلُ   ذَاكَ  أَيْضاً  عَلِيلُ
قُلْتُ : خَلِّ   الْعَلِيلَ  فَهْوَ   كَثِيرٌ      وَلْتَعُدَّ    الصَّحِيحَ    وَهْوَ    قَلِيلُ
سَلِ الفَضْلَ
سَلِ الفَضْلَ أَهْلَ الفَضْلِ قُدُماً وَلاَ  تَسَلْ       غُلاَماً   نَشَأَ   فِي    الْفَقْرِ  ثُمّ    تَمَوَّلاَ
فَلَوْ    مَلَكَ   الدُّنْيَا   جَمِيعاً   بِأَسْرِهَا        تُذَكِّرُهُ     الأَيَّامُ     مَا     كَانَ    أَوَّلاَ
وقال عن الصفقاء والنزقين والمتنطعين والمترفعين والمتبجحين الذين سكبهم جميعا في قالب واحد واخترع لهم شخصية مُفَضّل النمطية:
مُفَضّلٌ
مُفَضّلٌ     مُسْتَعْجِلٌ      فِي الْحُكْمِ  وَالْكَلاَمِ
يَقُولُ    فِي   دَقِيقَةٍ      مَا   قُلْتُهُ   فِي   عَامِ
كَأَنَّمَا   يَعِيشُ   فِي      ضَيْقٍ   وَفِي    زِحَامِ
لَكِنَّ    مَا     يَقُولُهُ      أَقْوَى   مِنَ   الأَوْهَامِ
كَأَنّمََا        كَلاَمُهُ      نَفْخٌ     عَلَى   الأَنَامِ
لاَ تَعْجَبُوا   فَجِسْمُهُ      زِمرٌ     بِلاَ    لِجَامِ
كَقِرْبَةٍ       مَنْفُوخَةٍ      تُدَاسُ       بِالأَقْدَامِ
وعن سخافة مفضل فقال إبن إبراهيم:
أَرَادَ أَنْ يَحْظَى مُفَضّلٌ بِمَا      يَرْفَعُ   رَأْسَهُ  أَمَامَ  الْعُلَمَا
فَجَمَعَ  النَّاسَ  عَلَى مَأْدُبَةٍ      وَصَارَ   يَفْخَرُ  بِمَا  تَعَلَّمَا
فَقَرَّرَ    الْمُجْتَمِعُونَ   أَنَّهُ      أَثْقَلُ  خَلْقِ  اللهِ ظِلاًّ وَدَمَا
أما عن وصف مفضل وهو يضع نظارات على عينيه فليس هناك أوجز من هذا الوصف الغارق في السخرية حتى النخاع:
وَحِينَ غَابَ مَرَّةً        وَصَفَهُ      بَلاَغٌ
بِأَنَّهُ       نَظّارََةٌ        وَخَلْفَهَا    فَرَاغٌ
وعن جهل مفضل بالرغم من مظهر المثقف الذي يبدو عليه فقال إبن إبراهيم:
مُفَضَّلٌ  بِالرُّغْمِ  مِنْ  خَوَاهُ      وَجَهْلُهُ   يَنْفَعُ  مَنْ  سِوَاهُ
فَكَمْ مِنَ الأَوْلاَدِ فِي حَارَتِهِ     تَعَلَّمُوا  الصَّفْعَ  عَلَى  قَفَاهُ
أما في هجوه لرجال الدين والكهنوت الذين يُكَفِّرُونَ الناس إرضاء لأولياء نعمتهم، ويفتون بفتاوى على المقاس طولا وعرضا وارتفاعا بحسب ما يحصلون عليه من حطام الدنيا كمقابل فقال إبن إبراهيم:
يَقُولُونَ: الْمَعَرِّي مُلْحِدٌ  بَلْ       مِنَ  الإِلْحَادِ  قَدْ أَبْدَوْا فُنُونَا
فَقُلْتُ: مَقَالُكُمْ ذَا عَنْ يَقِينٍ       وَجَزْمٍ   أَمْ   تَظُنُّونَا ا لظُّنُونَا
فَقَالُوا: بَلْ عَنْ إِيمَانٍ  وَجَزْمٍ       وَنَحْنُ   لِمَا  نَقُولُهُ   مُوقِنُونَا
أَلاَ   للهِ   دَرُّ    أَبِيكُمْ   إِذْ       بِإِلْحَادٍ     غَدَوْتُمْ    تُؤْمِنُونَا
وعن مرضه تكلم إبن إبراهيم بأسلوب السخرية السوداء من حالته الصحية اقتداء بمقولة الابتسامة إهانة للمصيبة:
أَيْنَ أَنْتَ
زَارَنِي   مُمَرِّضِي   فَلَمْ   يَرَ  مِنِّي      فَوْقَ   فَرْشِ   السِّقَامِ  شَيْئاً  يَرَاهْ
قَالَ لِي: أَيْنَ أَنْتَ قُلْتُ: الْتَمِسْنِي      فَبَكَى   حِينَ   لَمْ   تَجِدْنِي  يَدَاهْ
وأختم هذه المقالة بما قاله عن الحقيقة:
الحقيقة
قَالُوا الحَقِيقَةُ  وَالْحَقِيـ      ـقَةُ تَرْكُهُمْ  مَا  يُتْرَكُ
تَعِبَتْ عُقُولُ النَّاسِ فِي      إِدْرَاكِ   مَا   لاَ   يُدْرَكُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق