جيل دراكولا

"عندما يُصبح العالمُ أشد قسوةً ما على المرءِ إلا أن يشدَّ على أسنانهِ ويُثابرَ"المدون
جيل دراكولا
اختفت البراءة أو تكاد من هذا العالم، ولم يعد هناك أحد بريئ اليوم باستثناء الحيوانات التي تُعاني في صمت من ظلم البشر وطغيانه وفساده الكبير، فحتى الأطفال الصغار ذَبُلت البراءة في عيونهم من بعدما جفت أثداء أمهاتهم من الحليب، ولم يجدن بدا من سبيل للتعويض عن ذلك سوى بحشو أفواههم بأثداء اصطناعية بلاستيكية لاحياة فيها ولا رحمة ولا شفقة، لذلك أضحت  نظرات الكثير من الأطفال الصغار مخيفة مثل نظرات 'دراكولا' 'كَطِّيَّحْ الْـمَاء فَالرْكَابِي' كما يقول المثل الشعبي المغربي، وأصبحوا أكثر عدوانية ونرفزة وناكرين للجميل حتى بالنسبة لآبائهم وأمهاتهم. 
وما على الدولة إلا أن تعمل على تربيهم عن طريق التجنيد الإجباري حتى يعرفوا معنى الرجولة، بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به المنظومة التربوية  سواء في الأسرة أو في المدرسة، من بعدما أضحت المدارس والمعاهد والجامعات والكليات تفرخ موديلات بشرية عدوانية مشوهة وممسوخة وبدون بوصلة، وماذا بإمكان المرء أن ينتظر من أمثال هؤلاء 'البراهيش' العدوانيين الناكرين للجميل، والذين لم ينظفوا ويطهروا حتى مؤخراتهم من الخراء سوى أن يحمل رحيله ويختفي عن الأنظار، في ظل الأزمة الخطيرة التي تمر منها البشرية اليوم على مستوى العالم بأسره، التي هي في واقع الأمر أزمة قيم تكاد تغشي الأبصار، ولا تخص وطنا أو بلدا بعينه دون غيره.
ولم يعد الكلام والنقاش والمحاضرات والمناظرات ونظريات المنظرين حول التربية والتكوين تـُجدي نفعا، حتى ولو تمت برمجة الأطفال بجميع أنواع المعارف والعلوم بكل اللغات في بطون أمهاتهم كي يخرجوا منها علماء، لأن الأساس أصبح فاسدا، لما طغت المادة على كل شيء، واستحمكت استحكاما قاتلا في نشر العداء والتطاحن والأحقاد والكراهية بين الناس، والعداء بين الناس كما قال أحمد حسن الزيات يُفسِدُ الضمائر والأخلاق، بل ويُفسِدُ الحياة كلها إذا تحول بينهم إلى طعام وشراب، وهو ما حاصل الآن، وإذا كانت رحمة الله التي وسعت كل شيء ما زالت ترعانا بالرغم من الفساد الكبير الذي استشرى في كل أرجاء الكرة الأرضية، فلا ريب أن للحيوانات البكماء دور أساسي في ذلك.
بالأمس كان الأب ينادي أحد أطفاله فيأتي إليه مهرولا مسرعا لا يلوي على شيء سوى تلبية ما يريده والده سامعا مطيعا، أما اليوم فهنالك من الأولاد من يسبون أباءهم بل منهم من يضربونهم، ويصل العبث والسخط مذاه عندما يرتكب الأولاد جرائم القتل بحق آبائهم، وقد عبر عن الحالة التي آلت إليها الأمور رائد القصيدة المغربية عبد الكريم الفيلالي رحمه الله في قصيدة الهيبي:
الوَلْدْ  لَبَّاهْ  سْمِيعْ   مْطِيعْ       إِلَى   يْنَادِيهْ   إِيجِيهْ  سْرِيعْ
الأَبْ شَجْرَة وَالوَلْدْ  رْبِيعْ      مَاحْلاَهَا     نُوَّارَة      زِينَة
الأَبْ بَعْدْ  الْعَزْمْ   تْرَاخَى      حَطّْ   سِيفُو  وُرْفَدْ  كَلْخَة
أَمَنْ  تَمَّ  تْشُوفْ الدُّوخَة       عْلاَشْ   وَلَّى   رَاشْقْ  لِينَا
أما المعلم أو الأستاذ الذي كان مبجلا، مكرما ومحترما من الصغير قبل الكبير أينما حل وارتحل حتى قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي:
قُمْ    لِلْمُعَلِّمِ   وَفِّه   التَّبْجِيلاَ       كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولاَ
فقد أصبح اليوم في وضعية معنوية يُرثى لها كما جاء على لسان الشاعر إبراهيم طوقان الذي ابْـتُلِيَ بـمحنة التعليم:
   شَوْقِي يَقُولُ وَمَا دَرَى  بِمُصِيبَتِي       "قُمْ    لِلْمُعَلِّمِ   وَفِّهِ    التَّبْجِيلاَ"
  أُقْعُدْ فَدَيْتُكَ، هَلْ  يَكُونُ  مُبَجَّلاً        مَنْ  كَانَ لِلنَّشْئِ  الصِّغَارِ خَلِيلاَ
  وَيَكَادُ   يُقْلِقُنِي   الْأَمِيرُ   بِقَوْلِهِ:       "كَادَ  الْمُعَلِّمُ  أَنْ يَكُونَ رَسُولاَ"
 لَوْ جَرَّبَ التَّعْلِيمَ  شَوْقِي   سَاعَةً        لَقَضَى  الْحَيَاةَ  شَقَاوَةً وَخُمُولاَ
حَسْبُ   الْمُعَلِّمِ  غُمَّةً    وَكَآبَةً        مَرْأَى   الدَّفَاتِرِ   بُكْرَةً  وَأَصِيلاَ
مَائَةٌ عَلَى مَائَةٍ إِذَا هِيَ   صُلِّحَتْ       وَجَدَ الْعَمَى نَحْوَ الْعُيُونِ سَبِيلاَ
وبالأمس  كان لكل شيء مذاق ابتداء من الحياة بكل ألوانها وانتهاء باللحوم والفواكه والخضراوات، أما اليوم فمن النادر أن تجد مذاقا لهذه الأشياء إلا في ركن منزو ومنعزل عن حضارة الهموسابيينس التي بلغت درجة اللاعودة في الفساد بكل أشكاله، فبالرغم من كثرة الأسواق الكبرى المضاءة المليئة بشتى السلع والمأكولات والمعلبات لدرجة الطوفان غير أن مذاقها كقطع البلاستيك أو الكرتون، والطامة الكبرى أنها مليئة بالسموم والملونات والملح والسكاكير والمواد المسرطنة التي أهلكت البشر جميعا حتى أضحى معظمهم مرضى.
لقد أضحت البشرية اليوم تعيش على القمامة والأزبال المعلبة في علب أنيقة جميلة المظهر والمنظر تسر الناظرين الذين قتل فيهم الإشهار المبني على الغش والخداع أعز ما في الإنسان: كرامته وعزته وفكره النقدي المنطقي وحسه المرهف، وزاده تدميرا  بلا رجعة لجميع معاني الإنسانية والأخوة والصداقة وكل شيء صاف جميل وأصيل، وأصبح  هذا المخنث أغلى وأوفى أخ وصديق على الإطلاق لكل الناس، لأنه صار رفيقا لا يفارقهم أبدا أينما حلوا وارتحلوا، يكفي أن يحكوا جيوبهم ويرشوه كلما انتابتهم نوبة من نزواتهم الخبيثة التي لا تنتهي، وإذا ظهر السبب بطل العجب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق