"مَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَاةً دَقَّ عُنُقَهُ الذِّئْبُ، وَمَنْ صَيَّرَ نَفْسَهُ نُخَّالَةً أَكَلَهُ الدَّجَاجُ" أبو حيان التوحيدي رحمه الله
أبو حيان التوحيدي رحمه الله ( 922 - 1023 م) الأديب البارع، والفيلسوف المتصوف، الواسع المعرفة، المتنوع الثقافة، صاحب الإنتاج الفكري الوافر، الذي صال وجال في علوم اللغة العربية وفنونها، فكانت تصانيفه متنوعة تضم الفقه والسنة والقياس وعلم الكلام والنحو واللغة والمنطق وعلم النجوم والحساب والهندسة والبلاغة والتصوف، ولا غرو في ذلك فهو تلميذ الجاحظ بدون منازع، فمن بحره اغترف وعلى طريقه وطريقته في الحياة ما انحرف.
وهو من الرجال القلائل الذين أذهلوا النقاد والمؤرخين بسعة اطلاعه، ووفرة مخزونه، وتبحره في المعرفة والعلم، لِمَا أبان عنه من عبقرية فذة في التصرف بالكلام، والتفنن في طرق البيان، والتباهي بأساليب البلاغة المطربة.
يعتبر أبو حيان التوحدي رحمه الله من الشخصيات التي أضافت إلى التراث الأدبي والفكري العربي الإسلامي ثروة تسمو به إلى ما فوق الثريا، مما يدعوني إلى الافتخار والاعتزاز به، لما رزق الله هذه الشخصية من القدرة على الأداء الفني الجميل، والتحليل النفسي العميق، والإبداع والبيان، بحيث بلغ أسلوبه من الصفاء والعمق ما مكن له من أن يحتل الذروة بين عظماء البلاغة والبيان في التاريخ العربي الإسلامي.
وكما يقول المثل العربي لكل حصان كبوة، فإن نقطة ضعف أبي حيان التوحيدي إن صح التعبير هو معاداته للتملق والنفاق والمراءاة والانتهازية، والتعبير عن ذلك جهارا نهارا أمام الملإ، ونزعته الفكرية المتمردة والرافضه قطعا لكل قمع وقسر أو إكراه يمارس على العقل أو الفكر، ورفضه رفضا لا رجعة فيه لكل فصل أو انفصام بين الفكر والسلوك أو بين العمل الفكري والمسار الأخلاقي، الشيء الذي جر عليه ويلات المجتمع المتملق المرائي المنافق.
وبالرغم مما قدمه أبو حيان التوحدي رحمه الله فلم ينصفه لا التاريخ ولا المؤرخون ولا بعض الفقهاء والعلماء الذين كفروه واتهمه البعض منهم من أمثال الحافظ الذهبي وأبي الفرج بن الجوزي وابن حجر العسقلاني رحمهم الله وغفر لهم بالضلال والزندقة والإلحاد، وازدادت الأقدار ظلما وقسوة لهذا الشخصية العبقرية الفذة، فاسْتُهْدِفَ في حياته بألوان قاسية من البلاء الذي أصابه في معيشته وفي مكانته، ولاحقت اللعنة تراثه من بعدما تبرم منه الجميع، فتبرم هو الآخر من الجميع، حتى أظلمت الدنيا في عينيه وصار سوداوي المزاج، فضاق بالناس لطول ما لقي من قسوة الحياة ومن عنت البشر ونفاقهم وانتهازيتهم ونكرانهم للجميل، مما حدا به إلى جمع كل مؤلفاته وتقديمها طعمة للنار، حتى لا تكون وشيجة بينه وبين الناس بعد مماته، وحتى يريح عظامه في القبر من جهل العيابين كما قال رحمه الله.
من الأقوال الخالدة لهذا العالم الجليل رحمه الله انْتَقَيتُ باقة بجميع ألوان قزح من أجمل وأروع وأبلغ وأشجى ما يزخر به هذا البحر الزاخر الوافر، ومن أراد المزيد من جمال وروعة وبلاغة وبيان اللغة العربية الفصحى فعليه بمؤلفات أبي حيان التوحيدي رحمه الله المكنونة في أخلاق الوزيرين، والإمتاع والمؤانسة، والإشارات الإلاهية، والبصائر والذخائر، والصداقة والصديق، والمقابسات، والهوامل والشوامل، ورياض العارفين، وتقريظ الجاحظ، والمحاضرات والمناظرات وغيرها من التصانيف، إضافة إلى مؤلفات أبي عثمان عمرو الجاحظ الغنية عن التعريف والشعر الراقي البليغ لأبي العلاء المعري رحمهم الله جميعا:
*الابتسامة زكاة المروءة.
*عَذِّبْ حُسَّادَكَ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.
*من عاشر الناس بالمسامحة زاد استمتاعه بهم.
*ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه.
*الرَّجُلُ اللَّطِيفُ الحِسِّ هُوَ أَعْشَقُ للجَمَالِ مِنَ اليَهُودِيِّ للمَالِ.
*الكبر في استيفاء الحق من غير ظلم، كالتواضع في أداء الحق من غير ذل.
*من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب، ومن صير نفسه نخالة أكله الدجاج.
*النظراء والأكفاء يكفي بينهم أن يكون الجواب كالابتداء، والآخِرُ كالأول.
*الكَذِبُ شعار خلق وأدب سيء، وعادة فاحشة وقل من استرسل معه إلا أَلِفَهُ ومن أَلِفَهُ إلا أَذَلَّهُ.
*الناس أعداء ما جهلوا، ونشر الحكمة في غير أهلها يورث العداوة ويطرح الشحناء ويقدح زند الفتنة.
*كما أن القلوب جُبِلَتْ على حب من أحسن إليها، كذلك النفوس طُبِعَتْ على بُغْضِ من أساء إليها.
*إياك أن تَعَافَ سَمَاعَ هذه الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السخف، فإنك لو أَضْرَبْتَ عنها جملة لَنَقَصَ فَهْمُكَ وتبلد طبعُك، ولا يفتق العقلَ شيءٌ كتصفح أمور الدنيا ومعرفة خيرها وشرها وعلانيتها وسرها.
*إذا انحط الإنسان عن رتبته العالية إلى رتبة ما هو أدنى منه، فقد خسر نفسه ورضى لها بأخسر المنازل، هذا مع كفره نعمة الله، ورده الموهبة التي لا أجل منها، وكراهيته جوار بارئه، ونفوره من قربه.
*وأما علم الكلام فإنه من باب الاعتبار في أصول الدين، يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح، والإحالة والتصحيح، والإيجاب والتجويز، والاقتدار والتعجيز، والتعديل والتجوير، والتوحيد والتكفير، والاعتبارُ فيه ينقسم بين دقيق يتفرد العقل به، وجليل يُفْزَع إلى كتاب الله -تعالى- فيه.
*الحكمة ضالة المؤمن أين ما وجدها أخذها، وعند من رآها طلبها، والحكمة حق والحق لا يُنْسَبُ إلى شيء، بل كل شيء يُنْسَبُ إليه وهو متفق من كل وجه.
*نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين.
*حرام على نفس تطهرت من أدناس الدنيا أن تدنس من مخالفة الله .. حرام على عين نظرت إلى ملكوت الله أن تحدق إلى غير الله.
*الحكمة نِسْبَتُهَا فيها، وأبوها نفسها، وحُجَّتُهَا معها، وإِسْنَادُهَا مَتْنُهَا، لا تَفْتَقِرُ إلى غيرها، ويُفْتَقَرُ إليها، ولا تَسْتَعِينُ بشيء، وَيُسْتَعَانُ بها.
*صَحِبْتُ الناس أربعين عاما، فما رأيتهم غَفَرُوا لي ذَنْباً، ولا سَتَرُوا لي عَيْباً، ولا حَفَظُوا لي سِرّاَ، ولا أَقَالُوا لي عَثْرَةً, ولا رَحَمُوا لي عِبْرَةً، ولا قَبِلُوا مِنِّي مَعْذِرَةً, ولا فَكُّونِي مِنْ أَسْرٍ، ولا جَبَرُونِي مِنْ كَسْرٍ, ولا رأيت الشغل بهم إلا تضييعًا للحياةِ، وتَبَاعُداً من الله تعالى، وَتَـجَرُّعاً للغيظ مع الساعات، وتسليطا للهوى في الـهنات بعد الـهنات.
*الغَرِيبُ مَنْ إذا ذَكَرَ الحَقّ هُجِرَ، وإِذَا دَعَا إلى الحَقِّ زُجِرَ، الغريبُ إذا امْتَارَ لم يـُمَرْ، وإذا قَعَدَ لم يُزَرْ، يا رحمتاً للغَريِبِ طَالَ سَفَرُهُ مِنْ غَيْرِ قُدُومٍ، وَطَالَ بَلاَؤُهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ، وَاْشَتَدَّ ضَرَرُهُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ.
*حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ زَمَاناً وَأَغْنَانِي الْعِيَّانُ عَنِ السُّؤَالِ
فَمَا أَبْصَرْتُ مِنْ خِلٍّ وَفِيٍّ وَلاَ أَلفَيْتُ مَشْكُورَ الخِْلاَلِ
ذِئَابٌ في ثِيَابٍ قَد تَبَدَّتْ لِرَائِيهَا بِأَشْكَالِ الرِّجَالِ
وَمَنْ يَكُ يَدَّعِي مِنْهُمْ صَلاَحاً فَزِنْدِيقٌ تَغَلْغَلَ فِي الضَّلاَلِ
تَرَى الْجُهَّالَ تَتْبَعُهُ وَتَرْضَى مُشَارَكَةً بِأَهْلٍ أَوْ بِمَالِ
فَيَنْهَبُ مَالَهُمْ وَيُصِيبُ مِنْهُمُ نِسَاؤَهُمْ بِمَقْبُوحِ الْفِعَالِ
وَيَأْخُذُ حَالَهُ زُوراً فَيَرْمِي عِمَامَتَهُ وَيَهْرُبُ فِي الرِّمَالِ
وَيَجُرُّونَ التُّيُوسَ وَراءَ رِجْسٍ تَقَرْمَطَ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْمَقَالِ
*الأحوال كلها -في صلاحها وفسادها- موضوعة دون اللفظ المونق، والتأليف المعجب، والنظم المتلائم، وما أكثرَ مَن رُد صالحُ معناه لفاسد لفظه، وقُبِل فاسدُ معناه لصالح لفظه!
*الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، ولكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قومٍ محاسنٌ ومساوٍ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحَلِّهَا وعقدها كمالٌ وتقصيرٌ، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مُفَاضَةٌ على جميع الخلق، مَفْضُوضَةٌ بين كلهم، فللفرس السِّيَاسَةُ والآدَابُ والحُدُودُ والرُّسُومُ، وللروم الِحكْمَةُ، وللهند -ومنهم البنغال- الفِكْرُ والرُّؤْيَةُ والخِفَّةُ والسِّحْرُ والأَنَاةُ، وللترك الشَّجَاعَةُ والإِقْدَامُ، وللزِّنْجْ الصَّـبْـرُ والكِدُّ والفَرَحُ، وللعرب النَّجْدَةُ والقِرَى والوَفَاءُ والبَلاَءُ والجُودُ والذِّمَامُ والـخَطَابَةُ والبَيَانُ، ثم إن هذه الفضائل المذكورة، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكل واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها، ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهلٍ بالسياسة، خالٍ من الأدب، داخلٍ في الرَّعَاعِ والهَمَجِ، وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طَيَّاشٍ بـَخِيلٍ عيِي، وكذلك الهند والروم وغيرهم.
*سألت أبا سليمان المنطقي عن الفرق بين الصداقة والعلاقة فقال: الصداقة أذهب في مسلك العقل وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة، وأما العلاقة فهي من قبل العشق والمحبة والكلف والشغف والتتيم والتهيم والهوى والصبابة والتدانف والتشاجي، وهذه كلها أمراض أو كالأمراض بشركة النفس الضعيفة والطبيعة القوية، وليس للعقل فيها ظل ولا شخص، ولهذا تسرع هذه الأعراض إلى الشباب من الذكران والإناث، وتنال منهم وتحول بينهم وبين أنوار العقول وآراء النفوس وفضائل الأخلاق وفوائد التجارب، ولهذا وأشباهه يحتاجون إلى الزواجر والمواعظ ليفيئوا إلى ما فقدوه من اعتدال المزاج والطريق الوسط.
*أحسن الكلام ما رق لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نَظْمٍ كأنه نَثْرٌ، ونَثْرٌ كأنه نَظْمٌ، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع، حتى إذا رامه مريغٌ حلَّق وإذا حلَّق أسفّ، أعني يبعد عن المحاوِل بعنف، ويقرب من المتناول بلطف.
وأختم هذه المقالة المقتضبة بدعاءين لهذا العالم الجليل عسى أن تُفِيدَ ويُسْتَفَادُ منها والله من وراء القصد:
**اللهم إنا نسألك ما نسأل، لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وحُسْنِ أفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعاً في رحمتك الواسعة، وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، فنسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك، فَتُشَمِّتَ بنا من لم تكن له هذه الوسيلة إليك، اللهم يا مولج الليل والنهار عُدْ علينا بصفحك عن زلاتنا، وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا .. وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا لأنك أولى بنا.
**اللهم إنا نسألك جِدّاً مقروناً بالتوفيق، وعلماً بريئاً من الجهل، وعملاً عرياً من الرياءِ، وقولاً مُوَشَّحاً بالصواب، وحالاً دائرة مع الحق، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس موصولاً بثبات يقين، وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة.
اللهم واكفنا من اللسان فلتته، ومن الهوى فتنته، ومن الشر خطرته، ومن الرأي غلطته، ومن الظن خبطته، ومن الطبع سورته، ومن الأمر روعته، ومن العدو سطوته، وجنبنا معاندة الحق، ومجانبة الصدق، وشراسة الخُلُق، ومذمَّة الخَلْقِ، والقَحَة بالعلم، والبَهْت بالجهل، والاستعانة باللجاج، والإخلاد إلى العاجلة، والخفوق مع كل ريح، واتباع كل ناعق.
فالشقي من لم تأخذ بيده، ولم تؤمنه من غده، والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك، ونقلته حميداً إلى منازل رحمتك، غير مناقش له في الحساب، ولا سائق له إلى العذاب، أنت ولي النعمة ومانحها، ومرسل الرحمة وفاتحها، بيدك الخير، وأنت على كل شيء قدير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق