يسألونك عن الصمت

مَنْ لَزِمَ الصَّمْتَ اكْتَسَى هَيْبَةً       تُخْفِي   عَنِ  النَّاسِ   مَسَاوِيهِ
لِسَانُ   مَنْ   يَعْقِلُ  فِي  قَلْبِهِ       وَقَلْبُ   مَنْ   يَجْهَلُ  فِي  فِيهِ
                                                                ابن المحجلي العنتري
يسألونك عن الصمت
يعتبر الكاتب والشاعر والمسرحي البلجيكي موريس ماترلنك (1862-1949) من الوجوه البارزة في التيار الأدبي الرمزي التجديدي، والذي كانت جل أعماله تنصب على مسألتي الموت ومعنى الحياة، لذلك فضل أن يبقى وحيدا طوال حياته، واستطاع أن يترفع فوق الحشود لأنه كان رشيقا وخفيف الروح والظل والخيال، ومن جوف التفاهة التي تضم العالم في أحضانها سوف يرافقنا هذا الكاتب البارع ذو الحس المرهف  كي يفتح قلوبنا قبل عقولنا على حقيقتنا حول الموت والقدر والحب، ويحدثنا بلسان الصمت بلغة موليير عما لا يُوصَفُ، وعما لا يُعَبَّرُ عنه، وعما يَعْجِزُ عنه الوصف، لأن  ماترلنك يؤمن بأن كلمات البشر وأفعالهم مُثْقَلَةٌ أكثر مما ينبغي بالفراغ، ومليئة بالكذب والرياء والنفاق.
كان يبدو ماترلنك للكثير من الناس في أحكامهم المتسرعة متناقضا مع نفسه، وإنسانا غريب الأطوار في نظر الآخرين، ويثير الارتباك والإبهام واللامبالاة بالنسبة للبعض الآخر،  إلا أنه ظل صوفيا يراهن على حقيقة الجسد الروحي الذي تحمله حقيقة كلمة مسكونة بالفريد الذي يكتب بإطلاق الصمت والابتعاد قدر الإمكان عن الأرض، وهذه الحقيقة تتجاوز المعارف والشعر، وتكشف ببساطة متعة رؤية ما لا يريد الكثيرون رؤيته، هذه الرؤية التي لا تتبدل في ليل الزمان، فالمادة لا متناهية متعددة الأصوات، جديدة، غريبة، وتتكلم كل اللغات، ولا يراها إلا القلة القليلة،  لذلك ينصحنا ماترلنك بأن نكف عن الكلام وأن ننصت لأعماقنا التي أضجرتها الثرثرة وصخب الكلام عندما يقول لأي كان أنت بالذات، حاول إذن في حيراتك المسكينة الصغيرة، أن تمسك لسانك خلال يوم، وسترى في الغد كيف ستكون خططك وواجباتك أوضح..لأن الكلام هو مجرد زمن، أما الصمت فهو الأبدية، فكما أن النحل لا يعمل إلا في الظلام، فإن الفكر لا يعمل إلا في الصمت، وكذلك الفضيلة لا تعمل إلا في السر.
نحن لا نتكلم إلا في الساعات التي لا نعيش فيها، في اللحظات التي لا نريد فيها أن نلاحظ أُخُوَّتَنَا ونحس فيها أنفسنا على مسافة كبيرة من الحقيقة، ومنذ أن نتكلم يُعْلِمُنَا شيء ما بأن الأبواب الإلهية تنغلق في مكان ما، إن الحياة الحقيقية والوحيدة التي تترك أثرا ما ليست مصنوعة إلا من الصمت، وإذا أُتيح لكم أن تهبطوا لحظة في نفوسكم حتى الأعماق التي تسكنها الملائكة، فما سوف تتذكرونه عن كائن أحببتموه وبعمق، ليس الأقوال التي قالها أو الحركات التي أجراها، بل ضروب الصمت التي عشتموها معا، وأقصد هنا الصمتَ الفَعَّالَ.
ذلك أن هناك صمتا سلبيا ليس سوى انعكاس النوم أو الموت أو اللاوجود، إنه الصمت الذي ينام، وهو حين ينام أقل خطرا من الكلام أيضا، ولكن ظرفا غير متوقع يمكن أن يوقظه فجأة، وعند ذلك فإن أخاه الصمت الفعال الكبير هو الذي يعتلي العرش، إن نفسين ستتلاقيان، الجدران سوف تخر، كل شيء يصبح خطيرا جدا، دون دفاع، ولا يعود يجرؤ أحد على الضحك، ولا يعود يُطيع، ولا يعود شيء يُنسى.
ولأن أحدا منا لا يجهل هذه القوة الغامضة والعابرة الخطرة، فإننا نخاف هذا الخوف العميق من الصمت، إننا نمضي قسما من حياتنا في البحث عن أمكنة لا يسودها الصمت، ومنذ أن يجتمع شخصان أو ثلاثة، فإنهم لا يفكرون إلا في إِبْعَادِ العدو الغير مرئي، ذلك أنه كَمْ من صداقات عادية لا أَسَسَ لها سوى  كراهية الصمت.
لقد كان الكاتب والأديب الفرنسي الكبير أونوريه دي بلزاك على صواب عندما قال: "كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة وفيما يتعرض له من مخاطر ومتاعب وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد ألا وهو عجزهم عن الاعتكاف، ومن هنا جاء ولع الناس بالضجة، ومن هنا كان السجن عذابا مريعا، ولذة الوحدة أمر يستعصي عليهم فهمه".
معظمنا لا يفهم الصمت ولا يقبله إلا مرتين أو ثلاثا في حياته، إنهم لا يجرؤون على استقبال هذا الضيف المغلق إلا في ظروف رسمية، الصمت..إمبراطورية الصمت الكبيرة يهتف الكاتب والناقد والساخر والمؤرخ الاسكتلندي  توماس كارليل (1795-1881) الذي عرف معرفة فائقة إمبراطورية الحياة التي تحملنا أعلى من النجوم، أعمق من مملكة الموت..وعلاقة الصمت بالرجال النبلاء الصموتين، إنهم متناثرون هنا وهناك، كل في مكان ما من هذه البرية، يفكرون في صمت، يعملون في صمت، ولا تتحدث عنهم صحف الصباح أبدا، إنهم ملح الأرض نفسها، والبلد الذي ليس لديه من هؤلاء الرجال، أو الذي لديه أقل مما ينبغي منهم فبكل تأكيد أنه ليس على الطريق الصحيح، وبلد هاته حاله هو غابة ليس لها جذور، الْتَفَّتْ أشجارها كلها فيما بينها بأوراق وأغصان، وسوف تَذْبُلُ سريعا وتختفي تماما.
إننا جميعا متساوون أمام الشيء الذي لا يُقاسُ، ولِصَمْتِ الْمَلِكِ أو الْعَبْدِ حيال الموت أو الألم أو الحب نفس الوجه، فالصمت يخفي تحت معطفه الذي لا يمكن اختراقه كنوزا متماثلة، وسر هذا الصمت الذي هو الصمت الجوهري وملاذ نفوسنا الذي لا تُنْتَهَكُ حُرْمَتُهُ لن يضيع أبدا، ولو التقى أول مولود بين البشر بآخِرِ سكان الأرض، فسوف يصمتان بالصورة نفسها في كل ما يجب أن يُسْمَعَ بدون نفاق ولا أكاذيب ولا مجاملات، وعلى الرغم من هذا الفارق من القرون، فسوف يفهمان ويتواصلان في الوقت نفسه بما لم تتعلم الشفاه قوله قبل نهاية العالم،  وكأنهما قد ناما في المهد نفسه.
إن أعظم فضيلة في الصمت هي التي نطق بها الشاعر والمسرحي اليوناني يوربيديس (480 ق.م - 406 ق.م)  لما قال: "الصَّمْتُ يُغِيظُ الشَّيْطَانَ"، وأظرف ما في الصمت هو ما عبر عنه الكاتب والناقد المسرحي البريطاني-إيرلندي الساخر جورج برنارد شو (1856-1950) لما قال: "الصمت يمنحك متعة التنزه في عقول الآخرين"، ومن أحكم الحكم التي قيلت في الصمت هي تلكم التي جاءت على لسان حكيم الصين الغني عن التعريف كونفوشيوس (551ق.م-479ق.م) لما قال: "الصمت هو الصديق الوحيد الذي لن يخونك أبدا"، ولو كانت للبشر نفس الرغبة في الصمت مثل رغبتهم في الكلام لكان العالم مكانا أجمل كما قال الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677).
وأروع ما قرأت عن الصمت في لغتنا العربية الجميلة هو ما جادت به قريحة صاحب القلم المتأمل الأديب والصحفي المصري أحمد بهجت (1932-2011) في 'تأملات في عذوبة الكون' لما نظم نثرا خالدا قال فيه:" تعرف الكرة الأرضية مئات اللغات، ولسوف تعثر في البلد الواحد على أكثر من لغة، بل إن اللغة الواحدة تعرف لهجات مختلفة تتراوح بين لهجات أهل الشمال وأهل الجنوب، حتى ليصعب على هؤلاء فهم أبناء جنسهم، واللغة كائن حي يولد ويتطور ويموت، ولقد ماتت لغات كثيرة بعد أن عاشت فترة على الأرض، اللغة الوحيدة التي نجت من التطور الْمُفْضِي إلى الموت هي لغة الصمت، بل إن لغة الصمت تصلح للأحياء وتصلح للموتى، وأجمل ما في لغة الصمت أنها تُولَدُ فلا تعرف أنها وُلِدَتْ إلا بعد وقتٍ، وهي تعيش فلا يُدْرِكُهَا تَغَيِيرٌ ولا تَطَوُّرٌ، وهي لا تموت كما تموت لغات الكلام، ويعرف العشاق لغة الصمتِ مثلما يعرفها الصوفية، هؤلاء عشاق مثل أولئك، يختلف موضوع الحب هنا وهناك، ولكن لغة التعبير في الدار العالية واحدة هي الصمت.. سُئِل أحد الصوفية: لماذا لا تتكلم؟ فأجاب بعد لـحظة صمت: إن تكلمتُ احترقتُ".
فحين تنام الشفاه تستيقظ النفوس وتشرع في العمل، وكلما اتسعت الرؤية عجزت الكلمات عن التعبير فيصبح الصمت والتأمل هو القاعدة، ذلك أن الصمت هو العنصر-المليء بالمفاجآت والأخطار والسعادة- الذي تتملك فيه النفوس بعضها بعضا بحرية وصدق ونقاء ناصع لا تشوبه شائبة، إننا لا نستطيع أن نُكَوِّنَ فكرة مضبوطة عن ذلك الثرثار الذي لم يصمت قط، ويمكن أن يُقال فيه بأن ليس لنفسه وجه، إن الصمت هو ملاك الحقائق السامية ورسول المجهول الخاص بكل حب، إنه في حقيقة الأمر هو الأبدية نفسُها.