برنارد شو الكاتب الزاهد الساخر

"برنارد شو الإنسان.. إنه رجل طيب القلب محمود الطوية، مطبوع على البساطة والسلامة، يكاد يعيش في حياته الخاصة معيشة النُّسَّاكِ المتألهين، فلا يأكل اللحوم ولا يشرب الخمر، ولا يحتفل بالمائدة في طعام ولا شراب ولا حلية" عباس محمود العقاد 
برنارد شو الكاتب الساخر الزاهد
اشتهر الأديب والكاتب الإيرلندي/الإنجليزي 'جورج برنارد شو' (1856-1950) صاحب الأدب الواقعي بالقصة والرواية المسرحية، واشتهر بالنقد الفني والإصلاح الاجتماعي، كما كان له باع طويل في الخطابة والمناظرة، إلا أن ذلك كله لم يُثْنِهِ عن التفوق في النكتة البارعة والكلمة السائرة، ومن بين النكت والهزليات التي اشتهر بها هذا الأديب العالمي هي تلك الهجمة الساتيرية اللاذعة الغارقة في السخرية التي شنها على رجال العلم والدين والسياسة والأطباء والمهندسين المعماريين والطباخين. 
فندد بالأطباء والمحامين وهزئ بعلمهم وقواعدهم، والعلماء مجرد بلهاء، والجامعات عبارة عن معاهد للغباوة وتكوين الأغبياء، والأطباء جزارون يتقاضون على بتر أعضاء الناس وإزهاق أرواحهم أجراً، وعندما يُصَفُّونَ الناس ويرسلونهم إلى الدار الآخرة يُخْفُونَ أخطاءهم القاتلة تحت الأرض، والمهندسون المعماريون يُخْفُونَ هفوات وأخطاء تصاميمهم خلف نبات اللبلاب المتسلق، والطباخون يُخْفُونَ رداءة أطعمتهم خلف المايونيز، أما العلماء فهم مجرد مجموعة من الكسالى يقتلون الوقت بما يسمى بالبحث، وعلى المرء الحذر من علمهم الكاذب، لأن هؤلاء أشد ضررا من الجهل، فعقل الغبي يحول الفلسفة إلى سخافة، والعلم إلى خرافة، والفن إلى حذلقة كما هو الشأن بالنسبة للتعليم الجامعي، واعتبر برنارد شو على أن القادرَ على عمل يَعْمَلُ والعاجزَ يَعْلَمُ، والعملُ وحده هو الطريق إلى المعرفة.
ويرى برنارد شو أن إباحة تعدد الزوجات هو العلاج لمشاكل الغرب، لأن أوروبا لو أخذت بهذا النظام لوفرت على شعوبها كثيراً من أسباب الانحلال والسقوط الخلقي الفظيع والتفكك العائلي، ويعتبر أن الكتاب المقدس عند النصارى هو أخطر الكتب الموجودة على وجه الأرض، لذا وجب حفظه في خزانة مغلقة بمفتاح.
سُئِل برنارد شو مرة: لماذا تتكلم كثيراً عن المال وزميلك 'ويلز' يتكلم كثيراً عن الأخلاق؟ أجاب: كل واحد منا يتحدث عن الشيء الذي ينقصه، ولما سُئِل عن رأيه في الإسلام قال:"الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر، الإسلام حسن ولكن أين هم المسلمون؟؟" 
أما عن الخمور المنتشرة انتشار الأوبئة حتى في الدول التي تدعي في دساتيرها على أن دينها هو الإسلام، فقد أدلى هذا الرجل العظيم برأي قاطع، وحُكْمٍ لا تردد فيه ولا زعزعة ولا اضطراب، عندما قال بأنه يجب أن يُمْنَعَ بيع المشروبات الكحولية الشديدة طلباً للربح، وطمعاً في الكسب الوافر منعاً باتاً في العالم كله، وفي مدائن الدنيا بأسرها وإلى الأبد وآخر الدهر، ولا حل لهذه المسألة ولا سبيل إلى ابتكار وسيلة لإبادة الشراب، حتى يُكْرَهَ عَصَّارُو الخمر وتُجارها ومُنتجوها على أن يتحملوا نفقات الأمراض والجرائم والخمول وقتل النشاط والمواهب والكفاءات التي تحدثها خمورهم، فإذا تيسر ذلك وَضُرِبَتْ عليهم الضريبة الفادحة وتحملوا إصر جرمهم، انحلت مسألة الخمر من نفسها وابتهج دعاة إبطال الشراب بتة وإلغاء الخمر دفعة واحدة.
أما عمن يسمون أنفسهم في العصر الحديث ب (الفنانين) فبرنارد شو يضعهم في مكانتهم القزمية ويحدثهم متحديا إياهم:" إن فناناً بلا قضية أو رسالة وطنية إنسانية لا يعدو أن يكون مهرجاً"، ويستطرد قائلا: إنه من المؤسف أننا حين نبلغ مرحلة الحكمة وتتحقق لنا السيادة على أنفسنا والسيطرة على أهوائنا فإن رحلة العمر تكون قد آذنت بالمغيب، ولم يتبق لنا الكثير لكي نستفيد بالحكمة التي اكتسبناها بعد التخبط الطويل في التجربة والخطأ.
وحدث مرة أن استدعى برنارد شو طبيبا إلى منزله عند شعوره بتعب خفيف، فصعد الطبيب الدرج على قدميه لعطلٍ أصاب المصعد، وجلس وهو يلهث ويوشك أن يتداعى في مجلسه، فوثب برنارد شو من فراشه وناول الطبيب قرصًا من الدواء يزيل التعب، وقال له: إنه يريحك على الأثر، بَيْدَ أن الآفة كلها معك هي فرط التغذية، فجرِّبْ أن تمسك عن لحم الجزار واكتفِ بالخضر والفاكهة، وأنت ترى أن عمري ضعف عمرك ولا أزال أنشط منك مائة مرة .. ألَمْ تلحظ كيف وثبت من الفراش في سهولة وخفة؟ فوافقه الطبيب وأثنى على خفته ونشاطه.
وكان برنارد شو يخطب في نادٍ حافل فقاطعه مخالِف حاقد متحذلق، واختطف الكلام من فمه ومضى يتكلم كأنه هو خطيب النادي، فقال له شو بهدوء وكأنه يعتذر: إذا سمح لي السيد بمقاطعته، وقبل أن يُتِمَّ برنارد شو جملته كان السامعون قد أغرقوا الْفُضُولِيَّ الْمُقَاطِعَ بالضحك فأسكتوه، واستأنف برنارد شو كلامه غير مُقاطَعٍ ولا مُعْتَرَضٍ عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق