وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور

"كُلُّ مُحْتَضِرٍ يَمُوتُ وَحْدَهُ، وَلَنْ يَنْفَعَهُ لاَ مَنْصِبُهُ، وَلاَ جَاهُهُ، وَلاَ صَوْلَتُهُ، وَلَنْ تَنْفَعَهُ لاَ أَمْوَالُهُ، ولاَ صَاحِبَتُهُ، وَلاَ بَنُوهُ، وَلاَ إِخْوَانُهُ، وَلاَ خِلاَّنُهُ، وَلَيْسَ بِمَقْدُورِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمُوتَ نِيَّابَةً عَنْهُ، فَالْمَوْتُ هُوَ الْحَادِثَةُ الوَحِيدَةُ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِ بِشَكْلٍ فَرِيدٍ وَمُطْلَقٍ" 
الإمبراطور الفيلسوف العادل ماركوس أوريليوس
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
مَا كَانَ الْجَهْلُ بِمَا يَدُورُ فِي رُؤُوسِ النَّاسِ يَوْماً سَبَباً للِتَّعَاسَةِ وَالشَّقَاءِ، إِنَّمَا الشَّقِيُّ مَنْ لاَ يَنْظُرُ إِلَى خَطَرَاتِ عَقْلِهِ هُوَ، وَلاَ يَهْتَدي مِنْ تَمَّ بِهَدْيِهِ وَإِرْشَادِهِ، رُبَّمَا تُغَادِرُ الْحَيَاةَ فِي أَيِّةِ لَحْظَةٍ، فَلْتَضَعْ هَذَا الاِحْتِمَالَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ أَوْ مَا تَقُولُ أَوْ تُفَكِّرُ بِهِ، وَحَتَّى لَوْ قُدِّرَ لَكَ أَنْ تَعِيشَ ثَلاَثَةَ آلاَفِ عَامٍ، أَوْ عَشَرَةَ أَضْعَافِ ذَلِكَ.
تَذَكَّرْ أَنَّكَ بَعْدَ بُرْهَةٍ سَتَكُونُ لاَ شَيْءَ، وَفِي لاَ مَكَانٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَرَاهُ الآنَ، وَكُلُّ مَا هُوَ الآنَ حَيٌّ، إِنَّهَا طَبِيعَةُ الأَشْيَاءِ جَمِيعاً أَنْ تَتَغَيَّرَ، وَأَنْ تَهْلَكَ، وَأَنْ تَتَحَوَّلَ، لِكَيْ يُتَاحَ لِغَيْرِهَا أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى التَّتَابُعِ.
تَذَكَّرْ دائماً أَنْ لا أحدَ يفقدُ أَيَّ حياةٍ غيرَ تلكَ التي يَحْياها، أو يَحْيا أَيَّ حياةٍ غيرَ تلكَ التي يفقدُهَا، فأطولُ حياةٍ وأقصَرُها في هذهِ الحالةِ سَيَّانُ، فاللحظةُ الحاضِرةُ واحدةٌ في الجميعِ، ومِنْ ثَمَّ فإن ما يَنقَضي متساوٍ أيضا، وأن الفُقْدانَ إنما هو فُقْدانُ لحظةٍ لا أكثرَ، ولا يمكنُ أن يُسْلَبَ من الإنسانِ غيرُ اللحظةِ الحاضرةِ، لأن المرءَ لا يمكنُ أن يفقدَ الماضيَّ والمستقبلَ، وكيفَ يمكنُ أن يفقدَ المرءُ ما لا يَمْلِكُ؟
المرءُ في الحياةِ زمانهُ لحظةٌ، ووجودُهُ في انسيابٍ، وإدراكُهُ في ضبابٍ، وبَدَنُهُ كلُّهُ في اندِثَارٍ، وعقلهُ دَوَّامَةٌ، ومصيرهُ غيرُ معروفٍ، ومجْدُهُ غيرُ مُتَيَقَّنٍ، وباختصارٍ كلُّ ما في الْجَسدِ ينسابُ بعيداً، وكلُّ ما في العقلِ أحْلامٌ وأوْهامٌ، الحياةُ صِرَاعٌ وَمُقَامُ غُرْبَةٍ، والْمَجْدُ الوَحِيدُ البَاقِيُّ هُوَ الْخُمُولُ.
تمسكْ بهذهِ الأَشْياءِ المعدودَةِ وأَعْرِضْ عَمَّا سِوَاهَا، أُذْكُرْ أَنَّ كلاًّ مِنَّا لا يعيشُ إلا اللحظةَ الحاضرةَ، وما أَضْأَلَهَا في الزَّمَنِ !!وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهَا مِنَ العُمُرِ هو إِمَّا مَاضٍ غَيْرُ عَائِدٍ، وإمَّا مستقبلٌ غيرُ معلومٍ، فما أَقْصَرَ مُدَّةَ الْمَرْءِ إِذَنْ في هذهِ الحياةِ، وما أصغرَ البُقْعَةَ التي يَقْطُنُهَا على الأرضِ، وقَصِيرٌ أيضاً مَجْدُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مهما امْتَدَّ، فهوَ قائمٌ على تَعَاقُبِ قَلِيلٍ مِنَ البَشَرِ سُرْعَانَ ما يَمُوتُونَ ولا يَعُودُونَ يعرفونَ أنْفُسَهُمْ، نَاهِيكَ بِمَنْ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ!!
لا تَتَخَبَّطْ ولا تَخْدَعْ نفسكَ أكثرَ من ذلكَ، فما أَحسبُكَ سوفَ تَقْرَأُ مُدَوَّنَاتِكَ، ولا تَوَارِيخِكَ عَنْ قُدماءِ الإغريقِ والرومانِ، ولا مُخْتَارَاتِكَ من الأدبِ التي أَعْدَدْتَهَا لِزَمَنِ شَيْخُوخَتِكَ، أَسْرِعْ إِذَنْ إلى النهايةِ، وأَقْلِعْ عن الآمالِ الزائفةِ، أَنْقِذْ نفسكَ إن كان لنفسكَ عندكَ أدنى اعتبارٍ قبلَ فواتِ الأوانِ، فأنتَ في كُلِّ الأحوالِ لستَ سِوَى رُوحٍ ضئيلةٍ تَضْطَرِبُ هُنَا وَهُنَاكَ وَهْيَ تَحْمِلُ جُثَّةً.
انْظُرْ في الوجودِ كُلِّهِ الذي أنتَ أصغرُ أجزائِهِ، وانْظُرْ في الزمانِ كلهِ، الَّذِي قُسِمَتْ لَكَ مِنْهُ لحظةٌ وجيزةٌ وهاربةٌ، وانْظُرْ في القَدَرِ وما هو مَعْقُودٌ بالقَدَرِ، وكَمْ أنتَ جُزءٌ ضئيلٌ منهُ، انْظُرْ مَلِيّاً كيفَ يُزَاحُ كُلُّ مَا هُوَ قَائِمٌ وكُلُّ مَا هُوَ قَادِمٌ، ويصيرُ ماضِيّاً ويزُولُ زوالاً، الوُجُودُ مِثْلُ نَهْرٍ في تَدَفُّقٍ دَائِمٍ، وأفعالُهُ تَعَاقُبٌ ثَابِتٌ لِلتَّغْيِيرِ، وأسبابُهُ لا تُحْصَى في تَنَوُّعِهَا، لا شيءَ يبقَى ثابتاً حتى ما هُوَ حَاضِرٌ عَتِيدٌ، تَأَمَّلْ أيضاَ الْهُوَّةَ الفَاغِرَةَ للماضِي والمستقبلِ التي تَبْتَلِعُ كُلَّ شيءٍ، أَلَيْسَ بِأَحْمَقَ مَنْ يعيشُ وَسَطَ هذَا كُلِّهِ ثُمَّ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ أَنْ يَلِجّ في الأملِ أو يهلكَ في الكفاحِ أو يسخطَ على نَصِيبهِ؟! وكأَنَّ أيَّ شيءٍ من هذا دائمٌ لهُ أو مُقَدَّرٌ أن يُؤَرِّقَهُ طويلاً.
الموتُ الذي هو انعتاقٌ مِنَ الاِسْتِجَابَةِ لِلْحَواسِّ، ومِنْ خُيُوطِ دُمَى الرَّغْبَةِ، ومِنَ العقلِ التَّحْلِيلِيِّ، ومِنْ خِدْمَةِ اللَّحْمِ، هُوَ الَّذِي سَوَّى بين الإسكندر المقدوني وسَائِقِ بِغَالِهِ، فإما أنهما اسْتُرِدَّا إلى نفسِ المبدإِ الْمُوَلِّدِ للعالمِ، وإما تَشَتَّتَا معاً بين ذَرَّاتِ الكَوْنِ، والموتُ هو الَّذِي سوفَ يُعْفِيكَ مِنَ الكَثِيرِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا عَلَى مَضَضٍ، وسَيُعْفِيكَ مِمَّنْ يُنَغِّصُونَ عَنْكَ حَيَاتَكَ، ويُخَلِّصُكَ ويُرِيحُكَ إِلَى الأَبَدِ مِنْ أَلَمِ وَمُعَانَاةِ فَسَادِ وانْحِطَاطِ وَرَدَاءَة وَمُيُوعَةِ وَتَفَاهَةِ الكَثِيرِ مِنَ الْخَلْقِ.
ما أكْثَرَ الذينَ حَلَّقُوا فِي أَعَالِي الْمَجْدِ يَوْماً مَا وَهُمُ الآنَ فِي غَمْرَةِ الْخُمُولِ، وَمَا أَكْثَرَ الذين تَغَنَّوْا بِمَجْدِ هَؤُلاَءِ وَانْدَثَرُوا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، تَأَمَّلْ دَوْماً  كَيْفَ أَنَّ مَا يَحْدُثُ الآنَ قَدْ حَدَثَ مِنْ قَبْلُ، وَلَسَوْفَ يَحْدُثُ فِي الْمُستقْبَلِ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ، شَاهِدْ بِعَيْنِ عَقْلِكَ مَسْرَحِيَّاتٍ كَامِلَةٍ بِنَفْسِ الْمَشَاهِدِ وَالأَدْوَارِ، وَلاَ فَرْقَ إِلاَّ فِي فِرْقَةِ الْمُمَثِّلِينَ.
كُلُّ مُحْتَضِرٍ يَمُوتُ وَحْدَهُ وَلَنْ تَنْفَعُهُ لاَ صَاحِبَتُهُ، وَلاَ بَنُوهُ، وَلاَ إِخْوَانُهُ، وَلاَ خِلاَّنُهُ، وَلَيْسَ بِمَقْدُورِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمُوتَ نِيَّابَةً عَنْهُ، فَالْمَوْتُ هُوَ الْحَادِثَةُ الوَحِيدَةُ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِ بِشَكْلٍ فَرِيدٍ وَمُطْلَقٍ، وَسُرْعَانَ مَا سَوْفَ تَصِيرُ  الأُبَّهَةُ وَالْعَظَمَةُ وَالْفَخَامَةُ والْعَجْرَفَةُ والأَنَا رَمَاداً أَوْ عِظَاماً نَخِرَةً، مُجَرَّدَ إِسْمٍ أَوْ حَتَّى لاَ إِسْمٍ، وَالإِسْمُ مَاذَا يَكُونُ غَيْرُ صَوْتٍ وَصَدَى؟  وَكُلُّ مَا نُعْلِيهِ وَنُغْلِيهِ فِي الْحَيَاةِ هُوَ شَيْءٌ فَارِغٌ، عَفِنٌ وَتَافِهٌ بِكُلِّ الْمَقَايِيسِ.    
المدون بتصرف عن التأملات للإمبراطور الفيلسوف الرواقي العادل ماركوس أوريليوس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق