من ذكرياتي مع قناة الروكاد بمنطقة الحوز

من ذكرياتي مع قناة الروكاد بمنطقة الحوز
كان الوقت صيفا قائظا، عندما انطلقت بي سيارة المصلحة باتجاه بلدية العطاوية على بعد 70 كلم من مدينة مراكش، وكان برفقتي السائق 'ب'، وكنت مكلفا آنذاك بالسهر على صيانة قناة الروكاد ومنشآتها الفنية البالغ عددها 407 منشأة، وتتبع ومراقبة أشغال تنقية القناة من الأوحال التي كانت ترسب في قعرها نظرا لانحدارها الضعيف الذي لا يتعدى 0.23 متر لكل ألف متر طولي، ونظرا أيضا لطبيعة المياه الموحلة المخزنة بسد الحسن الأول نتيجة انجراف التربة لضعف الغطاء النباتي والتشجير للمنحدرات المحيطة بالسد، تبلغ الطاقة التخزينية لهذا السد 262 مليون متر مكعب،  وقد أُقيم على الوادي الأخضر أحد روافد وادي تساوت في الطرف الجنوبي من الحوض الهيدرولوجي لوادي أم الربيع. 
تكمن أهمية قناة الروكاد التي تقطع سهل الحوز من الشرق نحو الغرب على طول 120 كلم وبصبيب مائي يصل إلى 20 م³/ثانية في كونها الشريان الحيوي الأساسي منذ سنة 1983 لغاية الآن الذي أنقد مدينة مراكش من العطش وزودها بمتوسط سنوي يصل إلى 71 مليون متر مكعب من مياه الشرب عوض 40 مليون متر مكعب المحددة في المشروع الأولي، كما تضمن هذه القناة تزويد 6500 هكتار من الأراضي الفلاحية بمياه الري بمنطقة تساوت السفلى و 20000 هكتار بمنطقة الحوز الأوسط و 21000 هكتار بمنطقة النفيس. 
وتجدر الإشارة أنه في إطار مواجهة الإجهاد المائي الذي يهدد المنطقة العربية برمتها وتوالي سنوات الجفاف العجاف، انتهج المغرب منذ سنة 1967 سياسة السدود الكبيرة - التي لم يكن عددها آنذاك يتجاوز 16 سدا حتى سنة 1966- وذلك بغية ضمان الأمن المائي، فتم اعتماد استراتيجية تروم تلبية الحاجيات من الماء للاستهلاك الغذائي الداخلي والاحتياجات من مياه السقي لإنعاش القطاع الفلاحي، وأُعطيت أولوية وأهمية خاصة لتعبأة الموارد المائية بالمناطق الجافة وشبه الجافة من أجل ضمان تطورها السوسيو اقتصادي، حيث تم إنجاز إلى حدود اليوم 145 سداً كبيراً بطاقة تخزينية تصل إلى 18 مليار متر مكعب، كما تم وضع برنامج لإنجاز 34 سدا جديدا بحلول سنة 2027 لرفع الطاقة التخزينية للسدود إلى 27 مليار متر مكعب من المياه.
نظرا للضغط المتزايد باطراد على الموارد المائية بمراكش ونواحيها مع وجود عجز مائي يصل إلى حوالي 20 %، تم الانكباب منذ مدة على عدة دراسات من أجل تعزيز ضمان مياه الشرب والمياه الصناعية ومياه السقي بمنطقة مراكش ونواحيها في إطار البرنامج الوطني للتزويد بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020-2027
وتقرر في الأخير وضع برنامج لإنجاز ثلاثة سدود بسعة تخزينية تبلغ 367 مليون متر مكعب ، منها سدان في طور الإنجاز بسعة 227 مليون متر مكعب، هما سد بولعوان بإقليم شيشاوة بسعة تخزينية تبلغ 56 مليون متر مكعب، وسد أيت زيات بإقليم الحوز بسعة تخزينية تبلغ 171 مليون متر مكعب، وتمت برمجة إنجاز سد سيدي إدريس الكبير مستقبلا بإقليم قلعة السراغنة بسعة تخزينية تبلغ 140 مليون متر مكعب، وستمكن هذه السدود الكبرى الثلاث ضمان التزود بالماء الصالح للشرب والمياه الصناعية بالمنطقة، وإمداد مدارات سقوية جديدة سافلة هذه السدود بمياه السقي على مساحة تناهز 54 ألف و900 هكتار.
بعد هذا المدخل الموجز للتعريف بهذه القناة الهامة جدا بالنسبة لمنطقة الحوز، والتي يمكن اعتبارها رصيدا وطنيا حيويا ينبغي المحافظة عليه، والتعريف أيضا بعجالة ببعض الإشكاليات والتحديات المرتبطة بالتزود بمياه الشرب والمياه الصناعية ومياه السقي بالنسبة لمدينة مراكش ونواحيها ومنطقة الحوز ككل، أعود إلى خرافي لأكمل لكم حكايتي، إذ بمجرد وصولي إلى عين المكان ترجلت من السيارة والتحقت بسائقي الجرافتين الهيدولكيتين اللذين كانا منهمكين في تنقية القناة ووضع الأوحال في شاحنات كانت متوقفة بالقرب، حيث كانت تُنْقَل بعد ذلك لأقرب الأودية، وكان يتم تفريغ الشاحنات ونشر الأوحال على ضفاف الأودية وليس وسط مجاريها، وبعيدا عن الأمكنة التي تتواجد بها المآخد المائية التقليدية، وذلك تفاديا لطميها بالأوحال وحرمان الفلاحين البسطاء من المياه. 
وكنت قد وضعت استمارات وجداول يتم ملؤها من طرف سائقي الجرافتين وسائقي الشاحنات الثلاث أو الأربع، وهي بمثابة عيوني لتتبع مردودية كل منهم على حدة، وهو الشيء الذي لم يكن يستسغه هؤلاء، وكانوا دائما يتدمرون ويشتكون أمامي من ضعف وهزالة مصاريف وتعويضات التنقل والأوقات الإضافية التي تخصصها لهم الإدارة، إذا أخذنا بعين الاعتبار الأشغال الشاقة والمنهكة التي يقومون بها تحت شمس حارقة تبلغ درجتها 58 درجة مائوية، مقارنة مع زملائهم القابعين أمام شاشات الحواسب داخل مكاتب مكيفة الهواء في درجة حرارة لا تتعدى 26 درجة مائوية، أو أولئك النائمين بين جدران الإدارة داخل مكاتبهم.
والحق يُقال أنني كنت جد متضامن معهم ومتفهم لمطالبهم المستحقة، ولكن ما في اليد حيلة، فلست أنا الذي يحدد مبالغ مصاريف التنقل والأوقات الإضافية والاشتغال خارج أوقات العمل، ولو كنت كذلك لمنحت هؤلاء أكبر المبالغ لأنهم يستحقونها عن جدارة واستحقاق، وذنوبهم يتحمل وزرها من يُعطي لمن لا يستحق أكثر مما يستحق، ويُعطي لمن يستحق أقل بكثير مما يستحق، وهي سنة سيئة ورذيلة قاتلة للروح المعنوية والعطاء المستمر، ومفهوم مقلوب لمعنى الإدارة، الذي لا زال يعشعش في جسد إداراتنا المريضة المنهوكة لحد الآن.
وبينما كنت أتفحص الاستمارات والجداول وأقارن بعضها بالبعض، سمعت صراخا من أحد الحراس الذي كان يقف قريبا مني بخطوات، وفهمت من خلال كلامه أن السائق الذي كان معي سقط في قناة الروكاد التي يصل عمقها بهذا المكان إلى 3.90 متر منها حوالي متر من الأوحال، فاستدرت نحو القناة ورأيت السائق، الذي كان يبعد مني بحوالي 300 متر، يلوح ويضرب خبط عشواء بيديه، فجريت أنا والزميل عبدالعزيز نحو السيارة وأخرجنا منها حبلا مفتولا طويلا، ثم أطلقنا سيقاننا للريح نسابق الزمن، وبمجرد وصولنا رمينا بالحبل فتشبت به السائق ثم أخرجناه سالما، فنسينا كليا الاستمارات والجداول وانشغلنا بأمر السائق وسلامته. 
وحين تيقنت بأنه بخير استعرت جلبابا صوفيا من الحارس الذي كان يقوم بحراسة الجرافات والشاحنات، وناولته للسائق وقلت له بأن يذهب لخيمة الحارس وينزع جميع ملابسه المبتلة ويلبس الجلباب في انتظار أن تجف تحت أشعة شمس يوليو الحارقة، وكما يُقال كثرة الهم تُضحك، فما إن رأيت السائق خارجا من الخيمة بالجلباب الصوفي الذي كان يتجاوز كعبيه ويمسح به الأرض لقصر قامته، إضافة للحيته البيضاء الكثة، حتى انفجرنا ضحكا أنا والزميل عبدالعزيز لأنه كان يبدو لنا مثل شخصية 'سانتا كلوز' الخيالية المرتبطة بأعياد الميلاد عند النصارى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق