جميع أموال ومباهج الدنيا لن توفر للمرء سكينة النفس

جميع أموال الدنيا لن تشتر للمرء سكينة النفس إذا افتقدها

وضع أحد الأطباء البارزين نصائح في جدول لمن يسعى للعيش بسعادة في هذه الحياة الدنيوية، وجاءت صيغة هذا الجدول كما في كثير من المؤلفات الْمُنْتَشِرَةِ وَالْمُتَدَاوَلَةِ اليوم بين البشر بكثرة على وزن كيف تُصبح سعيدا في خمسة أيام بدون معلم، وكانت كل الرغبات الواردة في هذا الجدول تتلخص في كل ما يتقاتل عليه الناس في كل بقاع المعمور صباح مساء: الصحة و(الحب) والموهبة والقوة والثراء والشهرة.
فتقدم حضرة الدكتور مزهوا مفتخرا بجدوله إلى أحد الحكماء كي يستشيره  في الأمر، فقرأ الحكيم الجدول ثم قال: يبدو للوهلة الأولى أن ما خططته بديع ومرتب ولا بأس به في مظهره، لكن دعني أقول لك أَنْ على المرء اللبيب ألا يغتر بالمظاهر، لأنك أغفلت العنصر المهم الذي بدونه تصير جميع نصائحك عبثاً مطلقاً، ثم ضرب الحكيم بالقلم على كل ما جاء في الجدول واكتفى بكتابة كلمتين: سَكِينَةُ النَّفْسِ.
ثم استطرد الحكيم قائلا:" هذه هي الهبة الربانية التي يَدَّخِرُهَا الله لأصفيائه، وإنه سبحانه تعالى ليعطي للكثير من الخلق الذكاء، والصحة، و(الحب)، والمال الوفير، والقوة، والشهرة، أما سكينة القلب فإن الله لا يمنحها إلا لمن يشاء وبِمِقْدَارٍ، وليكن في علمك أن هذا ليس من رأيي الخاص، فما أنا إلا ناقل من أرسطو، وسقراط، وأبيقور، وزينو الرواقي، وابن سينا، والفارابي، والكندي، وصدر الدين الشيرازي، وابن خلدون، وابن رشد، وابن طفيل، وتوماس أكويناس، وكونفوشيوس، ورينيه ديكارت، وبولس الطرطوسي، وماركوس أوريليوس، وغيرهم من فطاحلة الحكماء، لأنهم جميعهم  يقولون بلسان واحد: 'خَلِّ يَا رَبُّ نِعَمَ الدُّنْيَا تَحْتَ أَقْدَامِ الْحَمْقَى وَامْنَحْنِي قَلْباً غَيْرَ مُضْطَرِبٍ'".
لقد وحدت يومئذ صعوبة في تقبل ذلك، ولكن الآن بعد نصف قرن من التجربة الخاصة والملاحظة الدقيقة، أصبحت أُدْرِكُ أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، وأنا أعرف الآن حق المعرفة أن ما خَطَطْتَهُ أَنْتَ في جدولك لن يمنح المرء السكينة مطلقا، فلقد رأيت هذه السكينة تنمو وتُزْهِرُ بغير عَوْنِ من الماِل، بل بغير مَدَدٍ من الصحة، وَبِوُسْعِ السكينة أن تُحَوِّلَ الكوخ إلى قصر رَحْبٍ، أما الحرمان فإنه يُحِيلُ قصور الملوك والمترفين أقفاصا وسجونا.
فبمقدور عقل الإنسان أن يخلق في مكان مُقيمٍ من الجحيمِ فردوساً أو جحيماً من الفردوسِ كما قال الشاعر الإنجليزي الضرير جون ميلتون، والْمُسْلِمُ الْوَثَّابُ تَعْصِمُهُ مِنَ الْهَوْلِ السَّكِينَةُ، والْخَائِفُ الْهَيَّابُ يَغْرَقُ وهُوَ فِي ظِلِّ السَّفِينَةِ كما قال الشاعر الباكستاني الكبير محمد إقبال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق